لأن الفن لا يطعم خبزا .. فنانو لبنان يلجأون إلى استثمار أموالهم في مشاريع تجارية

TT

«الفن لا يطعم خبزاً...»، بهذه العبارة يوجز الفنانون وضعهم اليوم، الامر الذي يرغمهم على امتهان أعمال اخرى، قد يؤديها البعض بنفسه، فيما يشرف البعض الآخر عليها، مستثمراً فيها ما ادخره من اموال خوفاً من المجهول، ومما يتصف به الفن من عدم الاستمرارية، ويعتبر الفنانون اللبنانيون ان الواحد منهم يعطي فنه والمقابل لا شيء بل سراب.

فبعض الفنانين وصلوا الى اعلى درجات السلم واصبحوا معروفين على مستوى واسع، وتخطوا حدود الوطن ولم يكرموا سوى بعد موتهم، وآخرون يسقطون مع اول شعرة بيضاء تغزو رأسهم، فينتبهون الى ما اضاعوه في متاهة الساحة الفنية في حين لم يدخروا للمستقبل ما يضمن استمرارهم بكرامة. وفي ظل تردي الاوضاع الاقتصادية والفنية في لبنان بشكل عام، تحولت نسبة من الفنانين عن النشاط الفني البحت الى ممارسة مهنة اخرى تزيد من المدخول وتضمن المستقبل.

«الشرق الأوسط» حاورت الفنانين في هذا الخصوص، من بينهم موفق وحكم الحكيم اللذان يعملان في تجارة الاراضي، ويملكان ايضاً «سوبرماركت» في مدينة «بوردو» الفرنسية، وقد اتجها الى خارج الفن، «لأن واقع الفن اليوم لا يطمئن»، هذا ما قاله «حكم» مضيفاً: «لهذا السبب اتجهت واخي الى التفكير بامتلاك عقارات واراض لاستثمار ما نملك من مال، خصوصاً ان اصدار الشريط الواحد يكلف 300 ألف دولار، من اين لنا بهذه المبالغ الضخمة؟ لذلك نلاحظ تقلصاً في انتاج الاشرطة بغض النظر عن شركات الانتاج الفنية التي تدعم بعض اهل المهنة، مما يخولهم اصدار اكثر من شريط خلال السنة الواحدة ويضيف الى ارباحهم الكثير».

ويقول نقولا الاسطا ان «الفن بطبيعته ترفيهي يتوجه الى مرتاحي البال والجيب معاً، وعلى الرغم من مروره بفترة ذهبية في ما مضى، فإنه يعاني اليوم من ازمة على غرار القطاعات الاخرى، حيث توجد أقلية من الساهرين، ومن الطبيعي ان لا يقوم الفن على هذه الاقلية». ويضيف: «رغم اني لم الجأ الى الاعلانات عبر الوسائل المختلفة الا اني ادخرت الكثير من خلال الحفلات التي احييتها منذ انطلاقتي، مما يشكل دعامة لي ولعائلتي خلال 12 سنة قادمة، ويخولني التزام الفن وحده كمهنة، ولكن ذلك لا يمنع من تفكيري بمشاريع مستقبلية عدة لتوظيف اموالي، اذ يتملكني قلق دائم تجاه الغد، ولا اتقبل فكرة الوصول الى فترة ارجو اتوسل الفن لاطعم اولادي، لذا ادخر للغد وهو ما اختلف به عن غيري ممن تلهوا بالمظاهر الخادعة وعاشوا الفوضى فخسروا كل شيء».

وتقول الفنانة الصاعدة اليسا: «منذ طفولتي لم امارس مهنة اخرى غير الفن، وعلى الرغم من دراستي لمادة العلوم السياسية في الجامعة، الا انني اخترت الفن كمهنة اولى، واكتفي بما اجمعه من قليل المال ولا تهمني المشاريع، ولكن ما اكترث له هو ان اكفي نفسي، ولا اتخيل نفسي بعيداً عن الفن بشكل عام، خصوصاً اني لم اتعد عليه ولن افكر بغيره»، ومن الممكن ان تفكر اليسا بمصدر رزق آخر في المستقبل «وبعد عمر طويل اذا كونت ثروة، حينها يمكن ان افكر في انشاء حزب ربما ولكن بعيداً عن السياسة».

وكذلك الامر بالنسبة للفنان صبحي توفيق الذي بدأ حياته الفنية منذ كان طالباً، وعلى الرغم مما يعتبره من ان الفن لا يكفي للاستمرار، الا انه تفرغ له وهو يقول: «يجب التوسع بالاعمال، لكن ذلك يحتاج ايضاً الى امكانيات اضافية». ولا يخفي توفيق ما يتعرض له الفنانون من خسائر ضخمة، «فالارباح تضيع ما بين المتعهد والفنان وصاحب الملهى، ورغم ما يظهر من انتعاش على الصعيد المادي لدى بعض الفنانين الا ان الحالة العامة في لبنان وكذلك في عدد من الدول العربية تعكس القلق وسوء الوضع الاقتصادي لدى كثير ممن اصبح لديهم السهر والاستماع الينا في الملاهي من الثانويات، حتى ان بعضنا لجأ الى تخفيض اسعاره رغماً عنه احياناً، ولكننا نراوح مكاننا». ورغم ما يعانيه الفنان الا ان صبحي توفيق يعتبر ان «فكرة العمل الآخر غير واردة بعد، ولكنني اصبو الى عمل آخر في المستقبل البعيد، خصوصاً ان عمري الفني لا بد ان ينتهي يوماً واشيخ».

ولكن لماذا اللجوء الى الاعمال الاخرى التي يصيبها ما يصيب الفن من ركود، فالفنان مايز البياع كان يتعاطى عمل العقارات منذ 4 سنوات وهو يقول: «حين اصاب الاقتصاد بشكل عام ركود كبير وتوقفت الحركة اكتفيت بحفلاتي والمردود الذي يصلني من اشرطتي، الا ان افكاري لايجاد مهنة اخرى لا تنضب، فالازمة مستمرة، والخوف من المستقبل موجود، خصوصاً ان الفن (الغناء) اصبح من الكماليات، فمن يرفّه عن نفسه سوى الانسان المرتاح؟».

ويضيف البياع: «اذا لم يدخر الفنان اللبناني للغد يسقط مع ما يواجهه من هدر لحقوقه، خاصة في ما يأتيه من مردود عبر بيع الاشرطة أو بينما يرى البياع ان دولا اخرى مثل مصر والسعودية والكويت تحفظ للفنان حقوقه، نظراً لتطبيقها نظام حماية الملكية الخاصة». ويستطرد البياع ليصل الى ضياع حقوق الفنان كمواطن بما تتضمنه من ضمن صحي وشيخوخة، معتبراً «انه يجد نفسه مجبراً على حفظ كيانه كانسان قبل صفته الفنية ليعيش».

وللاسباب نفسها حرصت الاميرة الصغيرة، التي غابت لفترة عن الحفلات، على افتتاح محل لانجري منذ 5 سنوات وعملت على ان تكون موجودة فيه والاهتمام بأعمالها، ورغم عودتها الى الساحة الفنية الا ان ذلك لن يثنيها عن متابعة شؤون محلها، كما تقول «ولو من بعيد» لما يشكله من مردود دوري مستقر الى جانب ما تجنيه من الحفلات القادمة.

وهناك من يرى في الفن هواية، ولا يعتمد بالتالي على مردوده للعيش، وهذا هو حال الفنانة كلودا الشمالي التي اوضحت ان ما يدخل جيبها من الفن يخرج منه فوراً، نظراً الى ما يتطلبه من مصاريف ضخمة، واضافت ان الفنان قد يخصص احياناً للفن ما يجنيه من مصادر اخرى خارج اطاره، ولذلك تعتبر الشمالي نفسها «محظوظة» كونها متزوجة اولاً، وتشارك عائلتها في ايراد معمل بوظة يملكونه منذ سنوات.

وتدرس جيهان منذ مدة مشروع انشاء «مقهى راق»، ودفعها الى التفكير به كما قالت غياب الضمانات الكافية للفنان بشكل خاص، بالاضافة الى عدم وجود نقابة تعنى بشؤونه، خصوصاً انه يتصف بعدم الاستمرار، مما يدفع، وبلا تردد، الى التفكير بمصدر رزق آخر، نظراً لما يعانيه الفن من ركود سواء في لبنان او خارجه، مما يعرض حفلاتنا لخسائر نتكبدها منفردين».

ويكتفي وليد توفيق بالمردود الفني، وتستلب النشاطات الفنية اهتمامه الاول، وحسب مصادر مقربة منه «ما يجنيه من الحفلات والافلام يكتفي به، لذلك يتفرغ لها مبدئياً، وما من احد يعلم ماذا يخبئ المستقبل؟».