بقفاشته وجديد أدائه زياد الرحباني يعود «مباشرة» إلى أمسيات تكسر الصقيع

TT

ما زال زياد الرحباني قادراً على جذب جمهور عريض منوع للقائه والاستماع الى موسيقاه و«بفقشاته» وأغنياته المأخوذة من تفاصيل الحياة اليومية لتصير مع تعاقب السنين شواهد الحياة الاجتماعية والسياسية في لبنان.

لا يهم اذا كان اللقاء على ارتفاع اكثر من 1200 متر عن سطح البحر وفي صقيع ديسمبر (كانون الأول) حيث درجات الحرارة تقارب الصفر. فالجمهور تحمل الصقيع، وتدافع حتى اللحظة الاخيرة، على عادة اللبنانيين، للفوز ببطاقات وأماكن في حفلات حملت اسم «مباشرة» واحياها زياد في مجمع الشوف في بعقلين (جبل لبنان)، على ان يلحقها بحفلات اخرى في عدد من المناطق اللبنانية.

والاعلان عن الحفلات اقترن ببصمة طريفة ولاذعة عبر دمج كلمتي «تماماً ومساء» لينتج عنهما اشتاق عبارة «تماساً» بغية تحديد السابعة والنصف للبدء بالأمسية واحترام الموعد والالتزام به.

وبالطبع لم يلتزم «الشعب العنيد» والفوضوي، ولم يدخل القاعة الا بعد الثامنة، فأدبيات التزام المواعيد ليست من شيمنا. وزياد يعرف الامر، لذا عاقبه بدقائق انتظار، ليطل مع الفرقة بعد معزوفة فرحة من مقدمة مسرحية «بخصوص الكرامة» تلقفها الجمهور ليهيص.

لم ينتقص من متعة الأمسية غياب أعمال جديدة لزياد، ذلك ان رصيده ما زال متطوراً وسابقاً زمانه وقادراً على تحريك الجمهور وملامسة هواجسه واسئلته واضحاكه وتطريبه، يكفي ان يكون على المسرح حتى ترصده العيون، تتابع ادق التفاصيل التي يبثها عابثاً لا مبالياً، لتأتي عميقة وتعكس مكامن الوجع في ايامنا وأوضاعنا السياسية والاجتماعية.

من هنا لم يقتصر اللقاء على جانب فني واحد، وانما على مسرحية عفوية غير مفتعلة للأمسية، تولى زياد اخراجها مباشرة على الخشبة، كان قائداً للاوركسترا ولحركة الفرقة وتنقلات ضيوف المسرح وللكلام الذي كتبه في فترات متقطعة من ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وقدمه كل من رضوان حمزة وبطرس فرح وليال ضو وداليا القاضي، وما زالت معانيه وابعاده مبتكرة وصالحة لمطلع القرن الحادي والعشرين وربما ابعد من ذلك.

بداية الامسية مع نص لزياد قدمه رضوان حمزة ثم موسيقى «سهار بعد سهار» من اعمال الاخوين رحباني بتوزيع «زيادي»، لتتعاقب بعد ذلك الفقرات، ويشارك فيها الفنان مندمجاً، فيغني، وللمرة الاولي منذ فترة طويلة، ويشاغب ويشوش «فنياً» على الفرقة، يقاطعها، او يتجاوزها او يعلق على أداء من معه، ولا يتوانى عن الوقوف والرقص في اغنية «يا زمان الطائفية»، التي قدمها للمرة الاولى في غمرة الحرب الاهلية اللبنانية، ولا تزال حتى يومنا هذا تكشف عورات المجتمع اللبناني وشرذمته وتمزقه وتعيق اي اصلاح ممكن، ربما اكثر مما كانت في زمن المعارك والمتاريس.

والملفت في شخصية زياد واعماله، لاسيما في هذه الاغنية انه قادر على تقديم فن حقيقي متكامل لجهة الموسيقى الراقية والرائعة انغاماً وعزفاً، والتي يرفض زياد اي تنازل عنها لمصلحة الاستهلاك المربح، ليسكب فيها كلاماً بسيطاً يحاكي كافة شرائح المجتمع اللبناني بحضور حقيقي غير متكلف وعبر موسيقى حقيقية غير مستعصية على الاستماع والاستمتاع من دون ابتذال في زمن الانحطاط الموسيقي الذي نعيشه.

كذلك الامر مع اغنية «بهنيك» التي يمكن إسقاطها اليوم، اكثر من أي وقت سابق على الحالة السياسية والتمديد لرئيس الجمهورية في لبنان، وايضاً من دون ابتذال، وانما بحملة اعتراضية يدرجها في السياق وتربط زمن الاغنية بزماننا الحالي. ولا يفضل زياد تحية رفيق الدرب الذي توفي المطرب جوزيف صقر، بأغنية «قلتيلي حبيتك» ليعود الى اغنية فيروزية رحبانية بتوزيع جديد هي «بكتب اسمك يا حبيبي» ومع اغنية «قوم روح نام وصير احلم انو بلدنا صارت بلد» فتح زياد الباب واسعاً امام واقع ما زال يتفاقم، وكأنه يصر على تجاوز الأمسية وحدودها التقنية ليصبح حضوره مشبعاً بالقضايا القديمة الجديدة، خاصة اذا كان المكان الساحة اللبنانية بتناقضاتها وغليانها وسطحيتها وعمقها، وكأن في هذه الاعمال رؤية مستقبلية، لا تكفي أمسية واحدة او خشبة واحدة لاستيعابها، ولا تحتاج حملات دعائية وتغيير «اللوك» لتبقى يانعة وجذابة وعلى «الموضة» ورائجة في الأسواق الفنية.