الفيلم المصري «أنت عمري»: ميلودراما مكررة استدرت دموع المشاهد بشكل سطحي

TT

بالرغم من أن الميلودراما بسياقاتها المختلفة تشكل القاسم المشترك في تراث المسرح والسينما في مصر، حتى أصبحت إحدى الأدبيات الاساسية التي تتوارثها الأجيال من جعبة هذا التراث، ليضيفوا إليها أو يتقاطعوا معها في إيقاع فني مغاير.. بالرغم من هذا إلا أن المخرج خالد يوسف في فيلمه «أنت عمري» أطاح بهذا التراث بشكل فج من دون أن يضيف له شيئا جديدا من سجله الشخصي. وتبدى ذلك على مستوى الرؤية وتوظيف فريق العمل الفني خلف الكاميرا وأغلب الممثلين وكذلك عدم القدرة على التعامل مع السيناريو الضعيف لمؤلفه محمد رفعت. الحقيقة أن المخرج الراحل أبو الميلودرامات المصرية الذي كان ومازال الجمهور يختلف على قيمته الحقيقية، كان يملك خليطا من الوعي والقدرة والحس والثقافة والخبرة يدفعه لمعرفة مفتاح المتلقي المصري والعربي العاطفي بطبيعته، الذي يسهل عليه استدرار دموعه لكن من الصعب جداً أن تجعله يبتسم. لهذا كان حسن الإمام يوزع درجات وكيفية التأثير ومناطق الغناء وتكثيف الأحزان وكيفية تجسيدها والتعبير عنها على مدى العمل ككل بما كان يتناسب مع زمانه وسنوات عمله في القرن الماضي، ويدرك جيدا كيف يحرك فريق عمله ويوظف الممثل بشكل مؤثر في قنوات الاستقبال بمجرد نظرة حزينة أو بانكسار الجسد أو بالصراخ أو بالكلام المتأني أو المتقطع أو الصمت التام أو بدمعة أو بتعبيرات الوجه، حتى يصل في النهاية إلى مشهد الذروة الذي تنهمر فيه الدموع أنهاراً نتيجة التراكم الصحيح الذي اجتهد في بنائه من البداية حتى النهاية في تصاعد هرمي مؤثر جعل أفلامه تعيش إلى يومنا هذا.. لكن المشكلة الكبرى في فيلم «أنت عمري» هي تغلب منطق الاستسهال التام على كل شيء، بداية من الأوراق التي اكتفت بطرح مجرد عناوين قضايا مؤثرة تستدر العطف والدموع من دون أن تستكمل باقي الطريق وتجتهد في الإبداع، وهو نفس ما فعله المخرج في كافة عناصر العمل.. أي أن السيناريو اعتمد في أساسه على مبدأ وجود قضيتين حزينتين وهما مرض الباليرينا شمس (نيللى كريم) التي تعاني من مرض خطير ترفض العلاج وتصر على الموت على خشبة المسرح وحلم حياتها الرقص مع فرقة البولشوي عندما تأتي لزيارة مصر، ولا تستجيب لنداء الدكتور هشام (هشام سليم) الماهر في هذا التخصص ويحبها كثيرا ولا لتوسلات والدتها الأنيقة (رجاء الجداوي). وذلك بالتوازي مع اكتشاف المهندس الشاب يوسف ( هاني سلامة ) مرضه المفاجئ باللوكيميا، ويختار هو أن يموت وحيدا من دون أن يخبر عائلته الصغيرة التي يعيش معها في الغردقة والمكونة من زوجته هند ( منة شلبي ) التي يحبها بصدق وابنه الطفل الصغير رامي ( علي الجزار ) ووالده ( عبد الرحمن أبوزهرة )، إلى أن يجمع الفيلم بين المريضين من خلال تطبيق نظرية العلاج الجماعي، فيقع يوسف وشمس في بئر الحب وتكتشف هند الأمر وعليها الآن الاختيار بين زوجها وسعادته وموته أو سعادتها هي فقط لا غير.. هذه الأفكار من حيث المبدأ تبدو مؤثرة رغم أنها قديمة ومكررة، لكن كنا نتوقع أن تلعب المعالجة لها دورا فارقا على الأقل في الالتزام بمبادئ الميلودراما التي نعرفها كما نعرف خطوط كف أيدينا.. لكن مبدأ الاستسهال التام ومحدودية الموهبة دفعا المؤلف والمخرج ليختارا أول الحلول دائما سواء على مستوى فكرة المشهد وتصميمه وحواره وتنفيذه وإخراجه، وبالتالي أصبح المشاهد أمام بنية ضعيفة استاتيكية سبق لنا مشاهدتها في أعمال أخرى كثيرة ومن السهل جدا توقع الحدث والكلمة حتى النهاية، مما زاد من إيقاع الرتابة وانكسر بريق المفاجآت وخفت بالتدريج حتى انطفأ. فقد طرح المؤلف والمخرج خيوطا عاطفية وخيوطا علمية طبية وخيوطا سياحية في التنقل بين الغردقة والقاهرة وأسوان، لكن كل ذلك جاء باهتا فلم يتعمق لا في هذا ولا ذاك حيث اكتفى الفيلم بالتعامل مع أحداثه من السطح تماما مثل لافتات أسماء الشوارع المهمة التي لا تخبرك أبدا عما بداخلها.. فلا استفاد المخرج بمدينة الغردقة لا جماليا ولا تشكيليا ولا فكريا خاصة في البداية مما أثر بالسلب على بقية الفيلم واكتفى ببعض المشاهد العاطفية الساذجة بين يوسف وزوجته، إذن كيف للمتلقي معرفة النقيض أو الجحيم الذي انتقل إليه يوسف إلا إذا كان قد تذوق معه الجنة من قبل.. ومنذ بداية معرفة يوسف بالمرض أفصح الفيلم عن وسائله وأساليبه الاستسهالية أكثر وأكثر، فلم يترك أي مشهد ليوسف إلا واختار له التعبير بكم هائل من الدموع من البداية للنهاية، مما أدى إلى التكرار المستمر وعدم قدرة الممثل على التعبير عن موهبته أيا كانت. وقد ساهمت شحنة الدموع الأولى في استدرار دموع بعض المتفرجين في دور العرض حولنا، لكنها بالتدريج فقدت معناها وجاذبيتها وقوتها وانقلبت الدموع إلى لغة تعبير عادية جدا رغم أنه من المفروض أن لحظات الاختيار الساخنة بين الحبيبين جاءت قرب النهاية. وإذا افترضنا أننا حذفنا دوري والدة شمس ووالد يوسف فلن نجد أي تأثير على الإطلاق، لأن المؤلف والمخرج تعاملا مع الفيلم بنفس عقلية الدراما التليفزيونية التي تحتاج إلى عدد أكبر من الشخصيات والحوارات أيا كان مدى أهميتها حتى يطيل زمن الفيلم ويملأ الفراغات الضعيفة مهما كانت النتيجة. وبنفس المنطق وجدنا لحظة اللقاء الأولى بين يوسف وشمس واصطدام كتفيهما لتراه هي وهو يبكي صدفة من دون مبرر محكم، وبالمثل اكتفى الفيلم بالإشارة لحب د. هشام لشمس وبعدها تم تناسي هذه المسألة تماما لا ظاهريا أو داخليا، حتى عاد هشام نفسه يذكرنا بها وهو يخبر هند بها، وهكذا كلما تاه الفيلم في مأزق في ظل ضيق السيناريو واعتيادية الإخراج يجد المهرب في وسيلة الإخبار السمعية والدموع المنهمرة طوال الوقت. والحقيقة أننا لم نجد ما يشجعنا على الوقوف كثيرا أمام التكوين البصري لمشاهد المخرج ولا تحليل إبداع فريق عمله المكون من مدير التصوير سمير بهزان والمونتيرة رباب عبد اللطيف، حيث اتجها إلى تنفيذ تكنيك أكاديمي بدائي مقولب يهمه ألا يخطىء لكنه بلا جديد بمنطق القص واللصق فلا نعرف لماذا تحركت الكاميرا من اليمين إلى اليسار وماذا سيحدث لو سارت بالعكس مثلا أو ثبتت نهائيا، رغم أن بهزان بالتحديد له أعمال أخرى شهدت على قدراته الكثيرة المتوافرة. وكثيرا ما لاحظنا أن هناك من يتعجل نقل اللقطة وقطعها من هنا لهناك، من دون أن يترك فرصة للإيقاع الداخلي كي يطبع بصمته أو يمنح الممثلين فرصة حقيقية خاصة نيللي كريم وهشام سليم ليبرزا طاقاتيهما الكبيرة. وبنفس منطق السائر على أبعد سطح جاء أداء الممثل هاني سلامة مفتعلا يحاول تمثيل التأثير والتأثر، لكنه ظل أسير مشاهد بعينها عُرضت له من قبل، إذ يبدو أنه أصبح يحفظ حركة معينة للوجه أو العين للتعبير عن الحزن مثلا من دون تغيير أو مراعاة للفارق بين شخصية وأخرى وهي من سمات النجم المصنوع الذي يكرس وقته للحفظ والصم فقط لا غير. والحقيقة أن مسألة ترتيب الأسماء هذه على الشاشة أو على الإعلان تتم فيها مراعاة الكثير من الأمور الإنتاجية والمالية وما شابه، لكن على أرض الواقع الفني ورغم تأخر اسمي نيللي كريم وهشام سليم عن هاني سلامة ومنة شلبي المجتهدة في حدود، فقد ساهما في إعطاء ثقل فني للعمل وإنقاذه من الرتابة. فقد حاول هشام سليم أن يبدع في منطقة شبه ميتة، كما استغلت نيللي كريم الفرصة كعادتها واستخدمت عقلها وموهبتها وخبرتها كراقصة باليه شهيرة تحمل خلفية ثقافية فكرية واضحة لتضع بصمتها على الدور بقوة رغم أنها تجسد البطلة المريضة، إلا أنها كانت أكثرهم ذكاء وأقلهم افتعالا وبعثرة للدموع وتقطيب الحاجبين من دون داع، فسحبت من رصيد الدموع المنهمرة من الغالبية لتضيف قوة الأحاسيس وصدق المشاعر وإدراك أهمية اللحظة واستحقت مع هشام سليم أن يكونا بطلي الفيلم الموهوبين المجتهدين وعلامته المضيئة الحقيقية.