سيول بشرية تغزو مهرجان كناوة في الصويرة المغربية

مدينة يختلط ليلها بنهارها.. وجمهورها بدون ربطة عنق

TT

كل شيء كان يوحي بأن مدينة الصويرة المغربية (جنوب الدار البيضاء) شارفت على تخوم الجنون، بمناسبة مهرجانها السنوي «كناوة وموسيقى العالم»، فالرقص المحموم للشباب الذين قدموا من مختلف ربوع المغرب بتسريحات شعر تفوح منها رائحة التمرد وتذكر بحركة الهبيز، كلها أشياء تدل على أنه ما زال في قلب الشباب المغربي متسع للغناء. خلال موسم الهجرة الى موغادور (الاسم القديم لمدينة الصويرة) تتغير ملامح هذه المدينة الصغيرة التي يحتصنها البحر بين كفيه، اذ تتحول الى قبلة تستقطب عشرات الآلاف من الراغبين في تهشيم روتين الحياة الذي أحكم قبضته عليهم طيلة شهور السنة، فالمدينة التي لا يتجاوز عدد سكانها 60 ألف شخص تستقبل حوالي نصف مليون شخص يملأون شوارعها الضيقة، ويعزفون على الجيتار أو الدربوك (الايقاع) في محاولة لسرقة لحظات جميلة من بين أنامل زمن متراكض.

يختلط نهار الصويرة بليلها، ويفقد الخيط الأبيض والأسود معناهما الحقيقي، ففي أي ساعة من الليل يبدو منظر السيول البشرية المتدفقة عبر الشارع الرئيسي للمدينة والمقاهي التي تعج بالشباب حتى الفجر، فالعديد منهم يأتي الى الصويرة بدون مأوى محدد، لذلك ينامون فوق رمال الشاطئ ملتحفين بالسماء. الصويرة مدينة لا تنام، اذ لا تكاد تغمض جفونها للحظات حتى تفرك عينيها من جديد معلنة عن بداية يوم جديد من حياة المهرجان المفعمة بالموسيقى والرقص. نادرا ما يشاهد المرء زائراً يرتدي ربطة عنق، لأن الصويرة تتحول طيلة ايام المهرجان الى مدينة تضمر ازدراء تجاه كل من يرتدي ربطة عنق، ولا يخضع لطقوسها الخاصة طيلة أيام المهرجان. وهكذا لم ينج الشيوخ ايضا من لعنة الرقص، ولأنهم لم يستطيعوا اقتحام السيول البشرية اكتفوا بمراقبة المشهد من النوافذ.

وفي ساحة مولاي الحسن وسط نغمات فرقة «كناوة» التي يرافقها عازفون من أوروبا، كانت الأجساد البشرية تنغمس في حمى الرقص المجنون وكأنها تحاول التخلص من شيء ما يرقد في دواخلها، ووسط الراقصين كانت امرأة ترتدي «الحايك»، تهتز مع ايقاعات الموسيقى حتى وقت متأخر من الليل، كانت المرأة تصفق وترقص قبل أن ترفع يديها الى أعلى وتلوح بهما في اتجاه الفرقة الموسيقية معلنة عن ثورة جديدة أشعلت شرارتها الموسيقى.

ومثلما سحرت الشباب المغربي، فان الصويرة استطاعت أن تسحر ألباب الأوروبيين شبابا وكهولا، فالسياح الذين يزورونها خلال ايام المهرجان قدموا من مختلف أنحاء العالم، وانتشوا بارتداء اللحاف الصحراوي والألبسة التقليدية المغربية وطاقيات «بوب مارلي» وأخرى تحمل صورة العلم المغربي، يتكلمون لغات مختلفة، حتى النساء اللواتي يرتدين «الحايك» الذي تشتهر به مدينة الصويرة، غادرن المنازل وجلسن على قارعة الطرق للتصفيق على نغمات موسيقى كناوة التي تذكر بالجذور الافريقية لبلد تلامس جغرافيته خصلات القارة العجوز.

مثل كل عام تكون مدينة الصويرة على موعد مع نجوم عالميين يأتون من مختلف بقاع المعمور بدءا من السنغالي يوسف ندور، والفرقة الموسيقية لبوب مارالي، وفرقة ناس الغيوان، التي أحدثت ثورة فنية خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، والتي تأتي كل عام من أجل أداء مقاطع من أغنيات تمثل قطعة من قلب الزمن الجميل.

لقد اسدل مهرجان الصويرة اخيرا الستار على دورته الحالية.. وفي قلب محبيه وجمهوره زوادة من الشوق الكبير الى دورته المقبلة.