«الرحلة الكبرى» لإسماعيل فروخي: أول فيلم مغربي عابر للقارات

يصور العودة إلى الجذور الروحية العميقة للإسلام

TT

رغم أن فيلم «الرحلة الكبرى» للمغربي اسماعيل فروخي، ينتمي الى «افلام الطريق» التي تعتمد على عنصر التشويق والمغامرة عادة، إلا أن المخرج استطاع أن يجعل من عمله مناسبة للعودة الى الجذور الروحية والفلسفية لأرض الاسلام بعد عبور عالم تمزقه الحروب والاحقاد وتتوزع بين جنباته شعوب مختلفة اللغات والديانات والثقافات. فالأمر يتعلق برحلة حج يقوم بها مهاجر مغربي مقيم بفرنسا الى المشاعر المقدسة، رحلة اختار أن يقطعها بالسيارة عبر أوروبا والبلقان وصولا الى سورية والأردن ثم السعودية. وكل هذا يتم برفقة ابنه «رضا»، الذي لا يعرف حرفا واحدا من اللغة العربية فهو ولد ونشأ بفرنسا.

طوال الرحلة نشاهد تطور العلاقة بين الأب والابن بعد مرورها بمجموعة من لحظات الأزمة والتوتر ومجموعة من المغامرات، قبل أن يحصل التوافق النهائي بين الاب و«الابن الضال»، الذي يكتشف لأول مرة هويته الاسلامية الأصيلة والوجه الحقيقي لجذوره الروحية والدينية، ومشاكل العالم الذي يشاهد أجزاء كبيرة منه عبر مناطق اوروبا المتنوعة، ثم عبر بلاد البلقان المضطربة الغائصة في حروب التطهير العِرقي، ومنطقة الشرق الاوسط المتوترة. انها اذن «اوديسة» مغرية حقيقية، رحلة تكوين وتثقيف يتقاطع التنقل في الفضاء خلالها مع التنقل داخل مناطق الهوية والذات الفردية والجماعية. انها مغامرة كبيرة تذكر بالتقاليد الفنية العريقة لادب الرحلة، التي غالبا ما تتكون البنية السردية فيها من شخصين: المرشد والمتعلم (الاب والابن هنا)، ومن فقرات مرتبطة بتوالي المرور عبر المناطق والمجتمعات المتنوعة، لتكوين وجهة نظر مبنية على الاختلاف، على نسبية الاشياء وعمق الروابط التي توحد البشر رغم التناقضات الظاهرية. كما أن أداء الأب لمناسك الحج ثم وفاته في الديار المقدسة التي هي مهد الاسلام، تصبح كلها بمثابة علامة فارقة على نضج الابن. فالنضج والخروج من المراهقة الصعبة الى الرجولة يمر عبر الموت، عبر الخروج من شرنقة الأوهام والعودة الى اوروبا والى الحياة اليومية برؤية مغايرة، رؤية تطغي عليها التجربة الانسانية العميقة التي أتاحها هذا السفر الطويل لأبطاله.

وعبر هذا السفر تمر علاقة الأب والابن بمراحل متقلبة وأزمات تساهم في تشكيل شخصية الابن، ليعود الى مكان اقامته بأوروبا بشخصية جديدة واعية بجذور هويتها وبوضعية العالم المعاصر الذي نعيش فيه من خلال عبور منطقة البلقان خلال أحلك لحظات تاريخها المعاصر: أي مرحلة الحرب والتطهير العِرقي الصربي ضد المسلمين. يعود الابن الى أوروبا بعدما قام كذلك برحلة الى مهد الإسلام، في الوقت الذي يعيش فيه الغرب كل هذا الخوف المرضي الممكن من المسلمين، في سياق خطوة شجاعة يقوم بها هذا الفيلم المشحون بحمولة رمزية وفلسفية عميقة، طارحة لسؤال المستقبل وصراع الهويات وقضية التسامح والعلاقة مع التراث بشكل مكثف ومعمق. على العكس من بعض المخرجين المغاربة الذين يقيمون بالخارج، والذين تأتي بعض أعمالهم سطحية، ناقلة لرؤية «اثنوغرافية» تبسيطية منقطعة الصلة بالقضايا الكبرى لأوطانهم وأمتهم.

وإذا كانت ولادة الشخصية الجديدة للابن «رضا» تمر عبر موت والده، فالمثير في الأمر أن الولادة السينمائية للمخرج اسماعيل فروخي ولفيلمه الروائي الأول مرت بدورها عبر موت منتجه الفرنسي «ايون بيكترز». وحول ذلك يقول المخرج اسماعيل فروخي «كتبت سيناريو الفيلم في 1998، وتطلب مني الامر 5 سنوات كاملة قبل أن أعثر على منتج. الجميع تخوف من هذا العمل حتى عثرت على المنتج المتميز انيون بيكترز، المعروف بكونه أنتج مجموعة من الأعمال السينمائية المختلفة عما هو سائد، والذي كان يغلب قناعاته على مبدأ الربح. عندما التقيت به كنت على شفير الافلاس ومغادرة حرفة السينما نهائيا. غير أنه أنقذ حياتي السينمائية عندما منحني فرصة اخراج «الرحلة الكبرى»، قبل أن ينتحر داخل مكتبه في وقت لاحق».

وحول الظروف الصعبة التي تم خلالها التصوير يقول فروخي: «هذا أول فيلم مغربي عابر للقارات، ورغم أنني لست متخصصا في الفلسفة والدراسات الاسلامية، فقد حاولت تصوير شخصية الأب ذات القناعات العميقة والمعاناة الكبيرة. ولعل هذه المعاناة هي التي جعلت الفيلم يثير نقاشات متحمسة في جميع المهرجانات التي عرض بها. لقد عانينا خلال التصوير من مشاكل متعددة لأن ميزانيتنا كانت محدودة ولأننا صورنا من دون رخصة في عدد من الدول التي كانت تعيش وضع احتقان سياسي لدى وجودنا بها. وخلال ترحالنا عبر اوروبا وآسيا كنا، أنا والممثلون، نقوم بدور السائقين والتقنيين ونواجه المشاكل الفنية والقانونية. وقد غامرنا بالتصوير من دون رخصة في بلغاريا، وفي صربيا، التي كانت في حالة حرب أهلية، والناس يمرون أمأمنا مسلحين بينما نحن نحمل الكاميرات. وعندما أكملنا الفيلم الذي تحول تصويره الى معركة حقيقية، بكينا من التأثر أنا والممثلان محمد مجد ونيكولا كازال». تجدر الاشارة الى ان فيلم «الرحلة الكبرى» حاز جائزة أحسن دور رجالي في الدورة الأخيرة من مهرجان طنجة للسينما المغربية بفضل الأداء المتميز لشخصية الأب من طرف الممثل محمد مجد، بعدما اعتبر العديدون أن هذا العمل يستحق أكثر من تتويج.