فن الاقتصاد

محمد رضا

TT

ربما فن الاقتصاد ليس من خصائصنا الأكثر انتشارا. ولا أقصد الاقتصاد كعلم لكل ما يلتهم عالمنا من مصالح وأعمال وحياة مال ورأسمال، بل الاقتصاد في التعبير والإيجاز وصولا للمفاد. كيف تفسر مثلا أننا كثيرا ما نبدأ سرد حكاية بكل تفاصيلها المملة ونتباطأ في الوصول إلى مفادها، أو ربما نمر عليه من دون توقف لانشغالنا بالتفاصيل؟ أو هل هناك ما يؤكد هذا المنظور أكثر من الطريقة التي يتعامل بها المذيع التلفزيوني حين يطرح أسئلته والضيف حين يجيب؟ الأول لا بد أن يُظهر مدى إلمامه بتمهيد طويل يدلف منه إلى طرح وجهة نظره (التي لم يسأله فيها أحد) قبل أن يطرح السؤال، وحين يفعل تجده يعيد طرحه متوخيا كلمات أخرى لعل الأولى لم تعبر عما يريد طرحه.

حين يأتي دور الضيف تراه، في المرات الغالبة، يشط عن الجواب المطلوب فيعيد طرح رأي سبق له طرحه أو ينفذ إلى موضوع آخر يؤكد أنه ذو علاقة. وإذا كان واحدا من ضيفين أو أكثر فهو يريد تصفية حسابه مع أحد الضيوف الآخرين لأن الفرصة لم تتح له بعد.

الدراما العربية لا تخلو من هذه العادة، أي من المط والتطويل وتأكيد ما لا داعي لتأكيده في إظهار مكشوف لمسألة عدم ثقة الكاتب والمخرج ومن ثم الممثل بأن ما يقوله وصل من الجولة الأولى. إنها مسألة عدم الثقة ذاتها التي يبثها كل في مجاله صوب الجمهور، معتقدا أنه لم يفهمها بعد. لم يفهمها بعدما قيلت، ولم يفهمهما وهي «طائرة»، بينما الحقيقة أن الجمهور، وتبعا للمناهج غير الفنية المعمول بها، فهمها قبل نطق العبارة أو تفعيل الحركة.

تأخذ المسألة حجما مختلفا حينما يلد التطويل (بما يتضمنه من تأكيد على ما ليس هناك لزوم لتأكيده) على صفحات النص أساسا. الكاتب المعتاد على مط حلقات البرنامج التلفزيوني لكي يتسع لاستقبال حكاية كان يمكن سردها في سهرة من ساعتين، يعتبر التطويل فنا ناجحا يمارسه بقدرة فريدة، انتصارا على التحدي الذي يمثّله القيام بتأليف أو كتابة ثلاثين ساعة تلفزيونية. بينما التحدي الوحيد هو كيف يمكن تحويل الفكرة إلى قصّة مشبعة، وهذه إلى سيناريو ثري وحيوي في كل حلقة منه. واحدة من طرق هذا الثراء هي منح الشخصيات صورا واقعية تخلق دراميات متعددة تسير لجانب تلك الرئيسة وتنتمي إلى لُحمة العمل بأسره. طريقة أخرى هي بمعالجة كل حلقة كعمل شبه منفصل يطرح شخصيات وخطوطا قصصية تنتقل من حلقة لأخرى، لكنها توفر في الوقت نفسه شخصيات جديدة ليس من الضروري لها أن تتكرر في حلقات مقبلة.

حين يصل سيناريو يحمل نصا ممطوطا، مسرحيا وتلفزيونيا كما سينمائيا، فإن المخرج هو آخر فرصة متاحة لمنح العمل معالجة مختلفة وإنقاذه من هوانه، أو الإبقاء عليه كما هو.

كان المخرج الراحل حسن الإمام من أكثر مكرري التأكيد على ما سبق وروده، وسواء أكان السبب ناتجا عن التزامه بالسيناريو المكتوب على هذا النحو أو حبا منه في تأكيد الفعل ورد الفعل ومفادهما، فإن العديد من أعماله تلتزم تلك الصياغة المذكورة، مما يضعفها. خذ مثلا «بنات الليل» (1955) الذي كتبه السيد بدير حيث يبادرنا المشهد الأول بتقديم ثلاث شخصيات نسائية تتشارك العيش في العمل وفي السكن وتشكو، على نحو مطوّل، من سوء فهم المجتمع لهن، كونهن يعملن مغنيات وراقصات في النوادي الليلية. المفاد وصل ثم تكرر في المشهد ذاته، لكن المخرج لن يكتفي بذلك، بل سيستحدث مشهدا لاحقا يعاد فيه طرح المضمون ذاته بكلمات تختلف قليلا.