حواس الممثل

محمد رضا

TT

حضرت في الثمانينات خلال رحلتي الأولى إلى نيويورك ساعتين منفصلتين (كل يوم ساعة) من حصة حول التمثيل حسب المنهج، وذلك في «الأكاديمية الأميركية للفنون الدرامية».

في الأولى طلب الأستاذ المحاضر من الطلاب (وكان لا بد لي من مشاركتهم) الإنصات إلى حركة السير في الخارج، ثم تخيل بديلا لها. بذلك، قال: «ستمحو مداركك الآنية الخاصة». في الثانية طلب من تلاميذه أن يتخيلوا طعام فطور مختلفا عن الذي اعتادوه. وذلك لكي تختزن قدرة المعرفة من تجربة لم تقع لك. «هذا سيكون ضروريا لمساعدتك على تمثيل شخصية أخرى». وأضاف: «أنت تعيش بفضل حواسك، وعليك أن تغيرها قبل أن تمثل».

كلنا نستقبل العالم الذي نعيش فيه بعد أن كنا بدأنا التعرف عليه من سن الطفولة. كل طفل يقدم على حماقة واحدة على الأقل، أو في الواقع، حماقات عدة؛ فقد يمد أصبعه إلى نار الشمعة ثم يصرخ ملتاعا من الوجع، قد يحاول الخروج من سريره فيقع، أو ربما كسر اللعبة التي كانت تؤنسه. هذه الحماقات ليست محسوبة بالطبع عليه. ما هو محسوب أن يستمر في ارتكابها حين يكبر. لكن المهم هنا هي أنها أيضا تعلمه عدم الإقدام على ما لا يسره. سيهاب النار ويعرف أنها تؤذيه، سوف يصرخ طالبا من أمه أن تساعده في النزول من سريره أو سوف يتجنب كسر اللعبة، إذا عرف كيف كسرها أساسا.

هذا كله جزء يسير من المعرفة الشاملة التي نمر بها وبالتدريج. كلما كبرنا، وبفعل ما قد يحدث كل يوم، نزداد علما. بعضنا على الأقل يختزن هذا العلم، وبعضنا يبحث فيه، وبعضنا الثالث يتجاهله. لكن ما هو واقع دوما هو أننا نتعلم من الحياة كل ما هي عليه، وذلك يتم عبر خمس حواس رزقنا الله بها؛ البصر والشم والذوق واللمس والسمع. هذه الحواس هي رادارات استقبال لكل ما نعرفه عن العالم، والمخزن الأرشيفي الأول للرأي. عليك أن تتذوق أولا لكي تتعلم أي نوع من الفاكهة هو أطيب. عليك أن تسمع لكي تدرك صوت الأشياء، أو أن ترى مشهدا من حرب مروعة لكي تدرك فداحتها. تلمس لكي تعرف معنى الثلج، وتشم لكي تكتشف أن حريقا لا تراه نشب في مكان ما.

إذا ما كنت ممثلا، فسيكون عليك التفكير في حواسك هذه كثيرا لأنك ستستخدمها طوال الوقت، فأنت ستحتل شخصية أخرى وعليك أن تتغير تبعا لها. أن تصبح هي، لكي تفعل ذلك، فلن ينفع أن تحافظ على مداركك تلك، ولن يفيد أن ترجع إلى معلوماتك الخاصة عن الحياة، كما عودتك عليها حواسك. سيكون من المؤكد، إذا ما أردت تشخيصا صادقا للدور الذي ستقوم به.. أن تستبدل هذه الحواس بحواس افتراضية من ملك شخصية خيالية. وحتى إذا كانت الشخصية التي ستؤديها هي شخصية حقيقية راحلة أو ماثلة، فإن ممارستك لهذا الاغتراب عن حواسك أنت (وبالتالي مداركك) أمر لا مهرب منه.

وأنت لا تستطيع أن تترك نفسك بلا حواس، فإما أن ترجع لحواسك أنت فيختلف تمثيلك عن الإجادة المنشودة (حتى ولو كان جيدا في منحى آخر)، وإما أن تهرع لحواس الشخصية فتطبقها عليك، وتمضي في دروبها على نحو سيكون مقنعا إذا ما كان ناجحا. الخيار لك.