لحظات الحياة في صـور

محمد رضا

TT

تتألّـف الحياة من لحظات تتتابع وتتراكم وتشكّـل عمرا قد يطول وقد يقصر. يمكن للمرء أن يشهد لحظة معيّـنة ثم يعود إليها. هناك في نيويورك من لن ينسى لحظة قرار رجل رمى نفسه من مبنى مركز التجارة العالمي خلال العملية الإرهابية التي كبّـدت البشرية آنذاك وفيما بعد مئات ألوف الضحايا. هناك من لا ينسى لحظة تلقيه نبأ فوزه بالميدالية الذهبية أو لحظة تسجيله أول هدف لفريقه في مرمى كرة القدم أو تلك التي لا تنسى اللحظة الذي وقّـع لها فيها نجمها المفضّـل على أوتوغرافها ونظر إليها وابتسم. ملايين اللحظات لملايين الناس بل لملياراتهم إذ لا توجد حياة بلا لحظات.

لكن المختلف في لحظاتنا هي أنها تتحرك كلحظات الفيلم السينمائي. حين تضغط بأصبعك على زر المصعد فتكتشف أن المصعد لا يعمل هي لحظة (من ثوان قليلة) لكنها موصولة بلحظات سبقتها ولحظات أخرى تتبعها. لا تتجمّـد الحياة كما تفعل في الصور الفوتوغرافية. وفي هذا النطاق، نطاق تجمّـد الحياة في الصورة الفوتوغرافية، ميزة رائعة تتجاوز القدرة البشرية. ما تلتقطه الكاميرا هو لحظة من حياة مرتبطة بضغط على زر معيّـن: حركة تقنية زائد لحظة حياة تساوي لقطة تخرج مما هو حي لتتجمد خلال الزمن المقبل.

أجد في كل هذا ما يدعو للتعجب والإعجاب خصوصا عندما أقف عند صور التقطها الفرنسي شارل مارفيل (1813 - 1879) الذي عرف بأنه «مصوّر باريس» والذي يعرض له «متحف متروبوليتان للفن» في نيويورك حاليا مائة صورة كل واحدة منها باتت، عبر الزمن، تشكّـل لوحة فنية بحد ذاتها.

هو أشهر مصوّري عصره. المصوّر الذي عيّـنه نابليون الثالث «مصوّر مدينة باريس» سنة 1858 طالبا منه أن يبدأ بتصوير ضاحية غابة بولونيا التي كان العمل جاريا لترميم مبانيها المحيطة بغابتها لأجل أن تكون ملاذا للأثرياء والقادرين على حياة البذخ.

لكن مارفيل لم يكن مصوّر الجانب الرغيد من الحياة الفرنسية بل جل اهتمامه، كما تبدي صوره المعروضة، كان في التقاط شوارع باريس بأسرها بما فيها - وربما خصوصا - تلك الأحياء العادية أو الفقيرة.

في صورة من أشهر ما التقطته كاميرته نرى حيّـزا من شارع كان دوما محط الطبقة المتوسّـطة هو شارع «كونستانتين» (باريس السابعة). اللقطة بسيطة التركيب مأخوذة من دور علوي لعمق الشارع مع رجل يقف في وسط الطريق ينظر إلى ما يبدو حفرة كبيرة. عربة بحصان تتقدّم منه وهناك حفر أخرى متتابعة لعمق الصورة.

بصرف النظر عن عناصر الصورة التي التقطت سنة 1866 باستخدام ورق خاص ورقيق زجاجي، هناك تلك اللحظة الصحيحة، ضوءا وتشكيلا، التي تدخـل فيها مارفيل والتقط في رحمها تلك الصورة. ضغط على الزر. التقطت الكاميرا تلك اللحظة ثم توقّـفت.

وكمثل كل الصور الفوتوغرافية الجيّـدة وبل ربما ككل الصور على نحو مطلق، تبرز هذه الصورة قيمتها حين تضعها في مقارنة مع صورة ملتقطة للشارع نفسه اليوم لترى الفروقات الكبيرة.

بالنسبة لي، هناك لحظة رائعة لمبنى صالة «ريفولي» في بيروت ملتقطة من بعيد. الصالة بعد الحرب تم تفجيرها وهدمها فأصبحت في حكم الميّـت، لكن قيمة تلك الصورة هي في أننا نستطيع عبر التصوير أن نعيش في الأمس متى شئنا.