عمق الحياة

محمد رضا

TT

العمق في الصورة الماثلة لا يتوقـف على فن بحد ذاته. تجده في فنون الرسم والمسرح كما في السينما. طبعا تستثنى من ذلك الأعمال السريالية وغير الواقعية والتجريدية التي لا تبني ما تقوم به على المعادلات والمقاييس كما الأساليب الفنية ذاتها التي يستخدمها الفنان عادة، بل تخرج عن الالتزام بالمناهج الفنية المؤسسة.

قبل الممارسة الفنية فإن الحاجة للعمق من صلب الحياة العامة لكل فرد. الأستاذ في الصف دائم النظر إلى عمق صفـه حيث التلامذة الذين يجلسون في المؤخرة. حين تقرر أن تقطع المسافة بينك وبين سيارتك في المرأب تعاين مكانها أولا، مدركا كم هي بعيدة عنك. لكي تفعل ذلك تنظر في عمق المسافة. تودع من تحب حين يغادرون النقطة التي تقف عندها بالنظر إليهم وهم يبتعدون، ومع كل خطوة لا تمارس النظر إلى العمق فقط، بل إن ذلك العمق يزداد تغيـرا.

الفارق بين الحياة التي نعيش وبين الرسم وفن التصوير هو أننا نعيش بالأبعاد الثلاثة، ما يفرض على هذين الفنين المذكورين ابتداع عمقهما الثالث عبر توظيف اللوحة أو الشاشة المسطـحة. أما في المسرح فإن الأمر مختلف. العمق الثالث موجود فيه طبيعيا، لكنه عمق محدود في مسافته. على ذلك النظر إليه يصبح طبيعيا لأن تلك الحدود تلتقي والمسافة الصغيرة نسبيا بين النقطة الأولى في يمين الخشبة والنقطة الأولى في يسارها. وعموديا بين سطح المنصـة وسطح السقف. فقط الحياة تعطينا الحرية الأوسع التي ننعم بها غالبا من دون أن نشعر أو نتأمل بسبب انغماسنا في العمل أو في اللهو، واعتبار الكثير من نعم الحياة من نوع التحصيل الحاصل.

للفرنسي المولد (1604)، الإيطالي الوفاة (1682) كلود لوران رسم وضعه قبل وفاته (البعض يقول في سنة وفاته) بعنوان «أسكانيوس» يصور قيام جندي (وخلفه بضعة جنود آخرين وكلاب صيد) بإطلاق سهم على غزال. بينه وبين الغزال نهر جار. الغزال على الضفـة اليمنى والجنود على الضفـة اليسرى تحت أعمدة رومانية عالية.

عمق الصورة يمتد كيلومترات عدة، فبعد المكان الذي نرى فيه الحدث الماثل (والذي يبعد عن عين الرسام والمتلقي مسافة تقدر، لو كانت واقعية، بنحو مائة متر، هناك أرض تبتعد عمقا نحو جبل بعيد. في مطلع ذلك العمق هناك قافلة من أبقار تعبر عرضا. بعدها جبل صخري فوقه قلعة منتصبة إلى يمين الصورة ثم ذلك العمق وصولا إلى النهاية الأفقية تحت سماء توحي بالشروق أو الغروب (لا وجود للشمس ذاتها).

هذه اللوحة نموذجية لكل دارس لمفهوم العمق: كيف يخلق الفنان عمقا على شاشة مسطـحة. وهو مفهوم على المسرحي (رغم اختلاف النصوص) مراعاته والإبداع فيه بحدود منصـته. أما السينمائي فهو صاحب المهمـة الأصعب في محاولات ثلاث:

خلق العمق استخدام العمق كرؤية واقعية توظيف العمق لغاية فنية ودرامية.

هذا المجال الصعب مثير للكثير من حب البحث؛ لأن هذا الجانب من العمل الفني يمتد في جوانب أخرى. هو أيضا له أعماق نحن غير معتادين على التفكير بها، لكنها موجودة في كل لقطة في أي فيلم يستحق النظر إليه.