جاسوس رسمي

محمد رضا

TT

عرفت كل دول العالم أشكالا وهيئات مختلفة من الرقابة. حتى الغرب عرف ذلك، بل وحتى الولايات المتحدة الأميركية التي تم تأسيس دستورها على الحرية شبه المطلقة. هي عرفت الرقابة أيام تأكد لهيئات اجتماعية وسياسية في الثلاثينات أن السينما تستطيع أن تكون جنوحا خارج التقاليد والأعراف إذا لم يتم كبح جماحها وتأطير ما تدلي به وتصوّره، فتم تأسيس ما عرف بـ«شيفرة هايز» نسبة إلى ول هايز الذي ترأسها منذ عام 1930. بعد ذلك، قام الكونغرس بإنشاء سلطة محافظة أخرى فوق هوليوود عندما أخذت تحقق في «النشاطات المعادية لأميركا» في منتصف الأربعينات وأنشأت محاكمات مكارثي الشهيرة. هذه أيضا حددت ومنعت واستولت على القرار الفكري للمنتوج المصوّر (ولو أن امتداداتها شملت أيضا المثقفين والمسرحيين).

لكن إذ أقرأ حوارا مع المخرج البولندي أندريه فايدا نشر في مطلع هذا الشهر يتأكد لي أن أكثر الرقابات جورا كانت في ما وراء الستار في أوروبا الشرقية.

الرقابة في الدول الشيوعية من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط المنظومة بأسرها كانت متشابهة الهدف: التأكد من أن المنتوج الفني لا يخرج عن الخطوط المرسومة من قبل الدولة في تلك الدول (المجر، بلغاريا، ألمانيا الشرقية، تشيكوسلوفاكيا، رومانيا، بولندا، ألبانيا وبالطبع الاتحاد السوفياتي). كانت تختلف فقط في بعض أوجه التطبيق. المخرج فايدا يتحدّث عن التجربة البولندية في هذا الموضوع، فيقول إن الرقابة البولندية كانت تتم على مراحل.

«أولا، يتم التقدّم بعنوان الفيلم ومصدره (كتاب أو سواه). في حال حصول موافقة يتم تقديم السيناريو الذي يدرس بعناية. إذا ما نال الموافقة يتّجه المخرج إلى المسؤولين في الإنتاج طالبا الموافقة على الميزانية».

عند هذا الحد تختلف المعاملات. مخرجون معروفون أمثاله كانوا ينصرفون بعد ذلك إلى تصوير ما يريدون، ليس من باب الحرية بل من باب حتمية أن الفيلم المنجز سيعرض على الرقابة التي ستقارنه بالسيناريو وتفتي فيه.

إذا لم يكن المخرج ذا وزن أو أهلا للثقة، كان يتم انتداب شخص يجلس خلال التصوير ويبعث بتقاريره إلى المسؤولين عن سير العمل. جاسوس رسمي.

لكن على الرغم من كل ذلك تمكّن عدد من المخرجين الشرقيين من النفاذ من هذا الحصار الرقابي وتحقيق أفلام تم تهريبها (كما الحال اليوم مع ما يتسنّى من أفلام إيرانية) إلى الخارج حيث عرفت نجاحا. لاريسا شوبتكو وأندريه تاركوفسكي وسيرغي بارادجانوف كانوا أشهر مخرجي السينما الروس الذين مُنعوا حينا وتسللوا رغم المنع حينا آخر. ولا أنسى التظاهرة الرائعة التي أقامتها مؤسسة الفيلم البريطاني (The British Film Institute) في مطلع الثمانينات، وعرضت جملة من الأفلام التي كانت ممنوعة وحملت أسماء مخرجين أقل شهرة من المذكورة أسماؤهم هنا.

دائما ما يكون هناك طريق للالتفاف على المحظورات، وكلنا نذكر جعفر باناهي المعتقل في بيته والممنوع عن العمل الذي أخرج فيلما مهمًّا ضد النظام وبل ضد الرقابة وسمّاه «هذا ليس فيلما»، والذي نجح في إرساله لما وراء الحدود رغم الأسر.

طبعا تبقى الرقابة الذاتية التي هي ما يجب أن يتّكل عليه الجميع. فالأعراف والتقاليد الأخلاقية والثقافات كما القوانين واضحة، وإذا ما تم الاقتضاء بها ساعدت الجميع على كسر الحاجز الرقابي الرسمي.