وحيدا في العتمة

محمد رُضــا

TT

لجانب أن العتمة والاعتماد على ضوء الكومبيوتر أو شاشة التلفزيون بديلا قد يتسبب في إجهاد العين، فإن غياب الضوء الساطع، طبيعيا كان أو صناعيا، يحمل مجازيات عديدة معظمها داكن مثل تلك العتمة.

في واحد من المسرحيات التي شاهدتها ذات مرة في لندن تقرر إطفاء كل الأضواء، لا عن الصالة فقط بل عن المسرح، كما نص الإخراج على إلزام الممثلين بالصمت أيضا. لم تكن الغاية تغيير الديكور، إذ إنه عندما عاد الضوء مجددا لم يكن تغير شيء على المسرح. طبعا لم يكن خطأ تقنيا أيضا، وبما أنها لندن وليست بيروت المحكومة بقطع الكهرباء ثلاث ساعات كل يوم فإن المسألة ليست تقنينا أيضا.

الغاية كانت تعبيرية - فنية مصدرها رغبة (غير موفّقة تماما) لاستعادة نظام بريخت الذي نص على ضرورة تذكير المشاهد بأن ما يقدّم على المسرح ليس خيالا. بذلك فإن المقصود هو أن يستعيد المشاهد نفسه ويتذكر مكانه ولحظة وجوده قبل أن يكمل المتابعة. البعض يعتبر ذلك نوعا تعبيريا بالغا، لكن ما الفرق بينه وبين انقطاع الكهرباء لدقيقة؟

ما هو اللافت للاهتمام؟ هو أن العتمة مرتبطة شعبيا بموضوع مختلف تماما: إنه الليل.. الدكانة.. الشر.. الخوف.. الخطر. في الثقافات المختلفة فإن غياب الضوء هو تمهيد لحدث كابوسي. معظم الكوابيس تقع عندما تغمض عينيك لتنام ليلا وليس في النهار. هنا ينتشر الظلام في العالم الذي دخلته. ومع أنه ليس كل نائم يرى الكوابيس، فإن معظم النائمين معرّضون لكوابيس.

بما أن النهار هو شروق وشمس ونور فإن الليل، في التركيبة الطبيعية وبنظرية أن كل شيء له ضد (أبيض - أسود، فرح - حزن، حياة - موت إلخ..)، هو الظلام.. والظلام دامس لا يعيش فيه وينمو سوى الأشرار المتربّصين. أشهر مصاصي الدماء، دراكولا، لم يكن ليستطيع أن يعيش في ضوء النهار أساسا. واللصوص يتسترون بالليل، ومثلهم أفراد العصابات والمجرمون عموما.

العتمة، المصطنعة أو الطبيعية، هي بداية تفكك الثقة بالمحيط لأنك لا تعد تراه. أنت تطمئن أكثر لما تراه حولك. لا تستطيع أن تتجنّب عتبة عند مدخل الباب، أو بؤرة وحل في الطريق، أو شفرة حادة على جانب الطاولة، إذا لم تكن قادرا على أن تراها.

لكن العتمة هي سبب وجيه لتشكيلات فنية لوحاتية كما سينمائية ما دام هناك ضوء منبعث منها: معظم اللوحات الطبيعية والانطباعية (أي باستثناء السوريالية) التي دخلت التاريخ كأعمال فنية خالدة فيها لعب على الإضاءة وتلوين بالنور.

الليل، أيضا، قد يكون مسليا وهادئا تحت نور القمر. ذات مرة دعيت إلى مهرجان سينمائي صغير في بلدة إيطالية في مقاطعة توسكاني. الفندق الفخم الذي نزلت فيه يطل على واد من الأشجار. الطرق بعيدة. في الليل لا ترى شيئا ولا تسمع شيئا، ولولا الأنوار المتناثرة الآتية من منازل متباعدة لما كان هناك أي دليل على أن هناك أحياء آخرين. وحده القمر كان يسطع لكي يرينا قدرة الخالق سبحانه وتعالى، ولكي يبدد الظلمة لطمأنة النفوس.