غابي معماري : فشل الرسم في إيصال رسالتي

الرسام اللبناني الذي أحرق لوحاته في احتفالية احتجاجية: إنها صرختي الأعلى للتعبير عن الواقع

TT

أضرم الفنان التشكيلي والاستاذ الجامعي اللبناني غابي معماري أخيراً النار في 450 لوحة تمثل 90% من اعماله بعد ان «فشل الرسم كوسيلة تعبيرية في ايصال رسالته وموقفه من الاحداث المحيطة به والواقع الذي يعيشه، ولعل الناس يشتمون رائحة الحريق ويشعرون بالحرارة ويرون النار ويسمعون تكسير الخشب فتتحرك فيهم الحواس والمشاعر على حد سواء» كما يقول في هذا الحوار معه.

* متى ولدت فكرة إحراق اللوحات؟

ـ استغرقت الفكرة اربع سنوات بين جوجلة وتفكير، ولم انفذها الا بعد ان شعرت ان الظروف باتت مناسبة، وانه لا بد ان افعل شيئاً في هذا الوقت الذي تتسارع فيه الاحداث بشكل كبير، اي «الآن وليس غداً» حتى يكون للفعل الوقع الذي يبقى وليس الصدى الذي يختفي.

* كيف تصف لنا هذا الفعل؟ هل هو تعبير عن يأس أم هو «جنون فني»؟ لست يائساً ولست متفائلاً ولكن هذا لا يعني انه ليس لدي موقف مما يطال الناس يومياً من قصف بالكلام والصور والبرامج التي جعلتهم يتحولون، بالقوة، الى سلعة استهلاكية لسياسة المسؤولين الذين يسعون الى تحطيم آخر ما تبقى للشعب اللبناني: ثقافته. لذا فانني في هذا الموقف ابحث عن جمالية البشاعة والحقيقة، وقد كتبت بياناً اسميته «بيان السيئ» او «مانيفستو الكاكوسيسم» طرحت فيه جمالية السيئ هذه كحالة بحد ذاتها. واوضحت معالجتي لما يسمونه حوار الثقافات بتقسيم كلمة الى «Culture» اي قفى «Cul» وفعل القتل لأبين ان ما نسمعه من كلام هو حديث قفى ولا يقوم على مبادئ للحوار طالما انه ليس هناك اتفاق على مفردات تخاطب واحدة.

* هل يمكن ان يكون إقدامك على هذا العمل محاولة لتقديم استعراض ما لـ«تخليد نفسك و دخول التاريخ» مثلاً؟

ـ لا احتاج لأقدم على هذا العمل حتى اخلد نفسي لأنني في الاصل لا اعتاش من لوحاتي، ثم كوني لبنانياً وعشت في هذه الارض فهذا سبب كاف لتخليدي لانه لا احد يتحدث عن الحرب اللبنانية من دون ان يذكر جميع اللبنانيين. ومن هنا فالخلود قدموه لي بسيئهم الذي يطرحونه كجميل.

* معنى ذلك انه ليس هناك سبب شخصي؟

ـ ليست هناك اهداف شخصية ولا حتى مادية تتعلق ببيع لوحاتي كما قالها لي احدهم، لان ما فعلته يخدم هدفاً اسمى من وجودي، وهنا استشهد برد الحكيم الصيني كونفوشيوس على تلامذته المعترضين على ذبح خروف في احتفال بقوله: «انتم تحبون الخروف وانا احب الاحتفال» الذي لا يكتمل من دون ذبح الخروف للتمجيد والاكرام بحسب المعتقد الديني الذي قامت على اساسه حضارتهم على مدى آلاف السنين.

إذن فعل «التضحية» بمجموع اعمالي هو فعل اكرام للتعبير عن حالة او ايصال رسالة معينة لا تستطيع ان تصل الى ذروتها الا بهذه الطريقة التي تتحول معها اللوحة من مشهد الى كائن حي لا سيما عندما تجعل الناس يشتمون رائحة الحريق من مواد اللوحة ويشعرون بالحرارة ويرون النار ويسمعون صوت تكسير الخشب، فتتحرك فيهم الحواس (الموضوعية) والمشاعر (الذاتية) وهذا هو الهدف.

* هل ما زلت تحتفظ بلوحات غير تلك التي احترقت؟

ـ الاحتراق طال 90% من اعمالي، يعني ما يوازي 450 عملاً. وما بقي منها هو إما انني لم استطع ان اخرجه من السيارة او لانه ليس ملكي اي المجموعات الخاصة بوالدتي وشقيقتي.

* ألا تعتقد ان اللوحات التي تخرج الى الجمهور تصبح ملكاً له؟

ـ من البديهي ان اللوحة لا تخرج عن كونها سلعة تجارية، وبذلك ارى ان هناك نوعين من الامتلاك: امتلاك على مستوى الشراء وآخر يحصل بالنظر والاحاسيس. وكلا الامرين لا يعطيان الجمهور حرية التصرف باللوحة التي تبقى لي، وانا الذي اقرر كيف اجعل الناس يشعرون بالعمل ويفهمون الرسالة بالطريقة التي اريدها.

* لمن اردت ان توجه رسالتك؟

ـ لجميع الناس الذين لا يريدون ان يتحركوا. وانا لست بذلك سياسياً او عالم اجتماع او طبيباً نفسانياً ولا احاول ان اعالج بقدر ما اردت ان اتفاعل مع من حولي رافضاً الأنا في الفنان الذي يعبر عن نظرة فوقية ولا يستطيع ان يكون متلقياً.

* ألم تستطع ايصال هذه الرسالة بالرسم؟

ـ لست بحاجة للرسم على المستوى التقني لانني تملكته بشهادة من اعلمهم والاشخاص الذين كتبوا عن معارضي. اما الرسم كوسيلة تعبيرية، بالرغم من كل ما اوتيت به من تقنية ومهارة، وبالرغم من الاوجاع التي جسدتها لوحاتي، فإنه لم يفصح عما اريده، كما انه لم يصل الى ما يشعر به الناس. وما فعلته في عملية الاحراق هذه هو جمع اللوحات في احتفال واحد يشبه الى حد بعيد الاحتفالات التي يقيمونها ضدنا كل يوم، ومحاولة اشراك الناس في هذا الاحتفال الذي كان بمثابة اعلى صرخة يمكن ان اصل اليها، حتى انه لم يعد لدي ما اقوله في الوقت الحاضر.