جوهر إنساني

محمد رضا

TT

ليس هناك من يعرف كل شيء عن نفسه، ناهيك عن سواه، ولو أن هناك كثيرين ممن يتصرّفون على أساس أنهم يعرفون كل شيء. لو كنّا نعرف كل شيء عن أنفسنا، عن كياننا الداخلي، ومما هو مؤلَّف، ولماذا يدفعنا للتصرّف على هذا النحو أو ذاك، وعن «سايكولوجية» كل منا الخاصة والدقيقة، وليست العامة التي من السهل معرفتها، لما اختلفنا أولا، ولما ارتكبنا معظم ما نرتكبه من أخطاء خلال مسيرات حياتنا.

لكن إذا ما كان المرء العادي (و«العادي» هنا مصطلح وليس وصفا فعليا، لأنه ليس هناك من هم بشر عاديون وآخرون غير عاديين بالمعنى العام المستوحى من الكلمة) قد يعيش حالة أقل تطلبا لتحدي نفسه والتبلور بناء على المزيد من المعرفة حول ما هو ومن هو، فإن المخرج والكاتب ومدير التصوير وكاتب الموسيقى والرسام والأديب، وكل ذي اختصاص إبداعي مطالب بأن يسعى لتأمل نفسه، ومن ثم العالم، على النحو الذي لا يرد في نشرات الأخبار ولا يخوضه الناس.

المعرفة هي جوهر إنساني بالغ الأهمية في كل شأن، هي المحك الفاصل بين أن يكون الرأي صحيحا أو مجرد خاطرة، وهي الباعث على الانتقال من معرفة أولى لأخرى، ولما بعد ذلك وصولا إلى تكوين شامل تكمن أهميته في أنه يصوغ للإنسان رؤية تمنح عمله الفني أو الثقافي بعدا خاصا.

هذا ما يخلق فرقا بين مخرج «عادي» وآخر «عبقري»؛ واحد بمنوال العمل وحده، والآخر بأبعاده ورؤيته. كذلك الحال بين الكتّاب وباقي المبدعين، وكذلك الممثلون الذين إذا ما وصلنا إلى مضمارهم وجدنا أن معظمهم يعتمد على ما يعرف حال ما دخل المهنة يمثّل دوما أدواره المختلفة في شخصياتها من منطلقه هو. يسحب الشخصيات إليه عوض أن ينصهر فيها. مع الوقت سيتخضرم في الموقع ذاته، وسيبدو أنه تقدم مع السنين، لكن ما يحدث غالبا هو أنه سيجيد ما يقوم به أكثر وأكثر، لكنه لن يتطور فعليا إلا بنطاق محدود. هذا بالطبع من دون أن نغفل الظروف الإبداعية المحيطة، فهو يتعامل مع المعروض والمتوفر والسائد، وكلها تسير في الدرب ذاته.

هذا هو السبب في أن كاتبا في السينما أعرفه، وهو صديق عزيز، لا يزال يكتب المفردات ذاتها التي نشأ عليها قبل 30 سنة. يستخدم التعابير نفسها ويمارس الأسلوب نفسه، في حين أن آخرين تقدّموا، وتستطيع أن تعرف ذلك من مكوّنات مواضيعهم ومضامينهم والرؤى التي يبثّونها في كتاباتهم. هذا لا علاقة له بصواب الرأي أو سداده، فكل منا يمكن أن يصيب ويخطئ، على الرغم من كل شيء، ولو أن مجال الخطأ يضمحل كلما ازداد المرء معرفة وإدراكا لنفسه وللآخر. وما يرد في مجال الكتابة يرد في كل المجالات الأخرى.

ومن دون أن أسعى لنقد أحد، فإن سحب الشخصية إلى الممثل عوض الانصهار فيها هو ما يجعل الممثل يقف مكانه ولا يراوحه إلا قليلا. بعد حين لن يجد سبيلا إلى ذلك، فهو إذا ما نجح فيما يؤديه (لنقل إسماعيل يس أو فريد شوقي أو جون واين أو أرنولد شوارزنيغر) داومه، لأنه بات تذكرته للجمهور العريض، وإذا ما فشل فيه، فشل في شق خط سواه. مما يعيدنا إلى نقطة الانطلاق؛ أهمية أن يعرف المرء ذاته لكي يستطيع لعب رسالته الإنسانية في رحلة الحياة والعمل.