كذب أبيض

محمد رضا

TT

كل تمثيل هو كذب، وبعض هذا النوع من الكذب ضار، لكن الكثير منه أبيض، لأن المشاهد العالم يعرف تماما أن العملية كلها لا تعدو دراما مؤلّفة يُقصد بها، إما تقليد الواقع أو الخروج عنه. كذلك كل تأليف روائي أو مسرحي، وكل إخراج، وفي العمق كل تصوير. وعلى نحو خفي أكثر كل ما هو تسجيلي أيضا، إلا في حدود مشروطة.

هناك باحثون كثيرون اعتقدوا أن تقليد الواقع هو مواكبة، وبالتالي هو أكثر صدقا من سواه. من هنا حظيت الواقعية، بألوانها ومدارسها المختلفة، على إعجاب وتقدير أعلى بين نقاد المسرح أو الكتابة الروائية أو السينما.

لكن تقليد الواقع، أو نقله أو اقتباسه أو محاكاته أو حتى استنساخه، ليس الواقع ذاته. بريخت في أسلوبه القائم على إيقاظ المشاهد مما رآه مغبّة الغرق في الدراما، اعتراف بذلك. لمَ توقظ شخصا إلا إذا كان نائما أو ساهيا أو بعيدا في أفكاره عن واقعه؟ فيلم «سارق الدراجة» لفيتوريو دي سيكا (1948) هو المثال الذي لا غُبار عليه لما قامت عليه السينما الواقعية الإيطالية (رغم أن هذا التيار بدأ قبل الفيلم وقبل مخرجه) من أسس فنية ودعوى موضوعية. رجل وابنه يبحثان عن اللص الذي سرق درّاجة الأول الذي تعيله. في سياق ذلك، يضطر الأب لسرقة دراجة هوائية أخرى، لكن مطارديه استطاعوا القبض عليه قبل أن يطلقوا سراحه، بالنظر إلى توسل ابنه لجانبه، في حين التزم هو الصمت، وقد أدركه الشعور بجرم ما أقدم عليه.

إنه فيلم «واقعي» بلا ريب، ومؤثر بسبب تركيبته الإنسانية. ونعم، استخدم المخرج عددا كبيرا من المواطنين الذين لم يسبق لهم الوقوف أمام الكاميرا من قبل. نمط استمر لاحقا، ولا يزال مستمرا كلما فكر بعض السينمائيين أن الاستعانة بغير المحترفين هو تأكيد على واقعية وصدق الفيلم.

لكن كل شيء في الفيلم «الواقعي» هو أيضا مؤلف. بصرف النظر عما إذا كان الممثل محترفا ظهر في عشرات الأفلام من قبل، أو كان يعمل في حرفة بعيدة عن التمثيل والفن تماما، فإنه يقف أمام الكاميرا ليؤلف تجسيدا لما تم تأليفه كتابة، ويقوم المخرج بتنفيذه. فلا الممثل سُرقت درّاجته، ولا الولد ابنه، ولا الذين طاردوا الأب كانوا يقصدون بالفعل ما يقومون به.

ربما يبدو الكلام بديهيا للبعض، لكنه ليس كذلك لبعض آخر وجد أن الفن الواقعي هو أفضل فعل ثقافي أو تعبيري أو فني ممكن. من هنا تحبيذ البعض للسينما التسجيلية على سواها، على أساس أنها «تنقل الواقع». لكن إذا ما صوّرت شجرة واكتفيت، فإن هذا هو الواقع الوحيد (إلا إذا زُرعت تلك الشجرة خصيصا للفيلم). لكن إذا ما لاحقت رجلا بكاميرا تصور يوميات حياته، فإن كل مشهد من الفيلم لا يزال مركّبا. صحيح أن الرجل لا يمثل شخصية أخرى، لكنه يمثل نفسه في لحظات ينفصل فيها عن نفسه الأولى، وتنفصل الحياة بذاتها عن طبيعتها الحقيقية التامة، خصوصا عندما يبدأ المخرج بالطلب من الشخصية الماثلة أن تقوم بحركة ما إضافية: «أريدك أن تجلس في هذا الركن من الدار». ربما هذا الركن هو الوحيد الذي لا يحب الرجل الجلوس فيه، لكن بمجرد توجيهه، يتدخل المخرج في سياق الحياة ذاتها.. ويؤلف.