صناعة الخيال

محمد رضا

TT

هناك إعلان مصور تبثـه بعض الصالات العربية مصنوع كأنيميشن، ويـظهر شابا وفتاة يقفان عند مقدمة باخرة مهددة بالغرق. تقف هي أمامه وتنظر إلى الأفق بينما يحيطها الشاب بذراعه وهو يقف خلفها. فجأة يرن هاتفه الجوال فيتركها ليأخذ هاتفه من جيبه فإذا بها تقع في البحر. الإعلان بالطبع هو ضد استخدام الهواتف الجوالة داخل السينما. تقول، بلغة أخرى، كن عاقلا ولا تتسبب في إزعاج سواك. لكن العقلاء قليلون في هذا العالم، ولذلك فإن هذه الآفـة (آفة استخدام الهواتف الجوالة والفيلم معروض) ما زالت قاتلة لدرجة تسببت في أن يوقف هيو جاكمن عرض إحدى مسرحياته في لندن بعدما رن هاتف أحد المشاهدين. ولا ريب أن حوادث أخرى وقعت لم نقرأ عنها تلطـخ فيها وجه صاحب الهاتف شاعرا بالإحراج والذنب.

لكن موضوع هذا الأسبوع ليس الهواتف الجوالة وما تسببه من إزعاج داخل المسرح وصالات السينما، بل ذلك الإعلان المستوحى من المشهد الذي مثله كل من كيت وينسلت وليوناردو ديكابريو في «تايتانيك»: هي تقف سارحة عند مقدمة الباخرة وهو يقف وراءها. لا أحد منهما يدري ما سيحدث بعد قليل.

لكن ما حدث بعد ذلك لم يعكـر صفو المتلقـي لذلك المشهد. ليس فقط أنه المشهد الذي استوحاه المخرج جيمس كاميرون عندما وقف على منصـة الأوسكار وصرخ رافعا ذراعيه: «ماما، أنا ملك العالم» (وهو في الوقت ذاته استيحاء من موقف في نهاية فيلم «حرارة بيضاء» الذي أخرجه سنة 1939 راوول وولش عندما يقف بطل الفيلم جيمس كاغني ويصيح بالكلمات ذاتها)، بل هو المشهد الذي ارتبط بذاكرة ملايين المشاهدين حول العالم أحيانا أكثر من سواه من مشاهد الفيلم.

على الشاشة هي لحظات رقيقة، لكن ما يميـزها عوامل كثيرة، واحد منها فقط أنها لحظات أخيرة من الحبور والحب قبل أن تقع الكارثة. أما العوامل الأخرى فهي كثيرة.

لقد قرأت نسخة من السيناريو الذي وضعه كاميرون وعدت إليها قبل أيام باحثا عما إذا كان هذا المشهد موجودا في النص الأصلي. ما هو موجود هو وصف عام لا يحدد المكان وينص على وقوفهما معا في هدوء ما قبل العاصفة. لكن المشهد بكامله وتوقيته ومكان حدوثه تم لاحقا خلال التصوير. بذلك تكون العوامل التي أسسته فنية أكثر بكثير منها أدبية.

وأبرز تلك العناصر الظاهرة هو تصوير راسل كاربنتر للتنفيذ الدقيق الذي طلبه المخرج من بطليه. ذلك الوقوف شبه الشامخ في الليل عند مقدمة الباخرة في نظرة مشتركة نحو مستقبل زاهر. كلاهما يتطلـع للوصول إلى أميركا ويتطلع إلى خلاصها من خطيبها (بيلي زاين) بعدما اخترق سهم الحب قلبيهما معا.

ما هو مثير فعلا، أن هذا الإخراج والتنفيذ الذي أمـه المخرج ومدير تصويره والممثلان الشابان لم يقع حيث نعتقد أنه وقع، بل في الاستديو وأمام شاشة خضراء. ما يقفان عليه وما يتحرك وراءهما ليس مطلقا ما كان تحت قدميهما وخلفهما خلال التصوير. لكنها السينما، تلك التي تستطيع أن تخلق من الوهم واقعا جميلا.

ورجاء.. انس الدنيا واقفل جهاز هاتفك حين تدخل قاعة الخيال.