نوستالجيا: فخ الذاكرة الجميل

محمد رضا

TT

«النوستالجيا» حالة حنين للماضي، عالجتها كل الوسائل الفنية والأدبية في العديد من الإنتاجات، وفي كل الثقافات. حين يجلس ماكبث مهموما بما وقع له من مأساة، يتذكر ما كان عليه بالأمس ويزداد همّا وحزنا. هذا مثل محدد (وصحيح)، لكنه لا يعني أن كل «النوستالجيا» لا تطل برؤوسها الجميلة إلا في أوقات اليأس، بل كثيرا ما تتفاعل مع الذاكرة التي تبتسم لحادث ما.. ولو أن الابتسامة كثيرا ما تخبو بعد ذلك، إذ يدرك صاحبها أنه إنما يتذكر شخصا لم يعد موجودا، أو حقبة غابت تماما.

ليست المسألة في أن النوستالجيا تتحكّم في كثيرين منّا لدرجة أنهم مغتربون عما يحدث في دنيانا اليوم. بل هي في أن شعورهم وإدراكهم لما يحدث اليوم يدفعهم لمقارنة اليوم بالأمس. هذا في الظاهر، لأن الباطن، إذا ما خبرناه، يكشف عن دوافع أخرى لحب «النوستالجيا»، منها - وربما أهمّها - أن الإنسان كلما مضى عمرا ازدادت شكواه من واقعه، خصوصا إذا لم يحقق ما انصرف إلى تحقيقه من أحلام وأماني عندما كان في سن الشباب.

وهو ربما لا يعرف ذلك. جدّتي، رحمها الله، كانت تحن إلى سنوات غابرة، عندما كانت صغيرة تصعد سلم السراي بصحبة أبيها الضابط العثماني. في ذلك، لم تكن تترحم بالضرورة على واقع واحد، بل على أكثر من واقع؛ مكانة والدها التركي، ومدينة إسطنبول التي عاشت فيها صغيرة، و(في المضمون) الحقبة الزمنية ذاتها. كثيرون يحنّون إلى يوم «كان من الممكن ترك باب الدار مفتوحا، لأن الدنيا كانت آمنة»، وعلى أيام كان الجيران فيها يعرفون بعضهم بعضا، كما لو كانوا أفراد أسرة واحدة، ويتشاركون في الحياة الاجتماعية. أو أيام ما كان عالمهم عبارة عن تلك القرية أو ذلك الحي، أو عن أشجار التوت والجميز.

ذات مرة في صحراء عُمانية، نظر البدوي بعيدا ثم قال لي سارحا: «كانت هناك أيام لم يكن العالم بأسره عندي سوى هذه الصحراء التي أمامي. الآن ابني يعيش بعيدا عني في المدينة. لا شك أن عاداته اختلفت». هذا الرجل بدوره يتذكر حقبة ونوعية حياة يجدها تبدّلت حتى في موقعه.

أكثر من هؤلاء مَن يتذكر بحنان أيام الراديو أو أيام «التلفزيون الأولى» أو زمن المسرحيات الكبيرة التي كان الجمهور يحضرها بالبدلة الرسمية وثياب السهرة، كمن يحضر زفافا أو مناسبة عائلية كبيرة، أو «سينما الأمس» ووجوهها وممثليها والأبيض والأسود، وتلك المواقف البطولية التي لا تزال تلعب في البال.

هل زيارة الماضي حالة صحية أم وجع قلب؟ هل تنعش المتذكِّر أو تحبطه؟ أو هي حالة مزدوجة ترفعه فوق الواقع الحالي بيد وتغرقه في بحر الوهم بيد أخرى؟

ربما الجواب في الحالة الثالثة: تتذكر. تبتسم. تنتهي الذكرى تتجهم. الطريق محفوف بإحساس متشابك من عالم فات، تثق به، وحياة حاضرة، تتوقع منها أن تغدر بك في أي وقت. عليك أن تعرف طريقا وسطا يضمن لك أن تستفيد من تجارب الأمس وتخطط للمستقبل، ثم تفعل ما يحلو لك في الحاضر بعد ذلك.