دموع الكوميدي

محمد رضا

TT

ذات مرة قابلت الممثل الراحل زياد مكّوك. ممثل لبناني برع في الكوميديا وظهر مع الراحل المعروف شوشو في بعض مسرحياته كما في مسلسلات محمد شامل التلفزيونية. خلال الحرب الأهلية تمّت المقابلة الأولى. لم تكن مقابلة صحافية بل لقاء صدفة، إذ وجدته - وأنا في زيارة خاطفة - يسير في شارع الحمرا ودعوته إلى فنجان قهوة. لم تكن الحياة الفنية توقّفت تماما. الفن يتراجع ويضمر لكنه لا يتوقّف.

سألته كيف حاله. قال بلهجته البيروتية الصافية: «والله يا أخ محمد حالي على البلاطة. في البداية كنت أجلس في بيتي في طريق الجديدة متمنيا أن يتصل بي أحد. لكن كيف يمكن أن يتّصل بي أي إنسان إذا لم يكن عندي هاتف؟ دبّرت الحال واشتريت تليفونا واشتريت الخط. ثم مرّت أسابيع وأشهر من حينها وأنا أنظر لهذا التليفون وأقول له رن، لكن لا يرن.. رن.. لا يرن».

ألمه غلبني لدرجة أنني أذكر هذا الحديث. ثم دارت بيننا الأيام ولقيته. كان هاجر إليها للعمل في مصر. لاحظته في بعض أفلام المقاولات يؤدي دورا صغيرا هنا ودورا أصغر هناك. حين قابلته سألته: «كيف حالك الآن؟». أجاب بابتسامة منطوية: «والله يا صديقي أحاول. أتقاضى عن الدور مائتي جنيه. أشتري بمائة جنيه منها قمصانا وأصرف المائة الأخرى على التاكسيات».

زياد رحل قبل سنوات ليست بعيدة وهو بعد يحاول الوصول. كذلك رحل قبل أسابيع قليلة الممثل الكوميدي السوري، ذو اللكنة الشامية المحببة لأنه من صميمها، رياض شحرور. رياض هو أيضا كوميدي. قصير القامة والرقبة. «بدي أخنقك بس ما عندك رقبة» تقول له إحدى الممثلات في مشهد تلفزيوني مضحك عثرت عليه قبل سنوات بعيدة. لا أعرف ظروفه المادية، لكنه لم يبلغ شأنا كبيرا. مثل مئات الممثلين الطامحين لم يتوقّف عن الطموح.. لكنْ، كما هو الحال في كل ضروب التمثيل الأخرى في كل مكان من العالم، هناك ممثلون ضرب لهم القدر موعدا مع الشهرة والنجومية، وممثلون لم يضرب لهم القدر بل ضربهم.

الممثل الكوميدي، من أيام عباقرة السينما الصامتة، هو من يُثير الضحك على آلامه. إنه الضحية التي تتداولها الأيام. سيئ الطالع، لا يستطيع فهم العالم من حوله، يقف ويقع ثم يقف مجددا ويقع مجددا ولا يعرف لماذا يحدث له ما يحدث له. لا يستطيع الكوميدي أن يُضحك إذا ما ضحك على آلام الآخرين، لذلك الممثل «الكوميدي» بد أبوت في الثنائي «بد وكوستيللو» لم يستطع أن يكون مضحكا لأنه كان يترأس زميله البدين لو كوستيللو. عاش يتمنى لو أنه كان النصف المضحك، أو لو كان مضحكا بالدرجة ذاتها، لكن طبيعة الأدوار حتّمت عليه أن يحاول التميّز وليس الانصهار. لم ينجح. بقي الجمهور يشعر حيال كوستيللو بالتجاوب الأكبر لأنه كان الضحية. كان المتألم.

على عكسهما الثنائي الآخر لوريل وهاردي. كلاهما كان مضحكا للغاية. النكتة قسماها بينهما والجمهور أحبّهما معا وأحبهما منفصلين بالقدر ذاته.

الكوميدي الموهوب ليس الكوميدي الذي يضحك بل الذي لا يضحك. إذا ضحك فللضرورة وبعدها يعود إلى صميم الكوميديا: التراجيديا. تراجيديا وجوده على نحو غير كفؤ مع الناس والحياة. مع حظّه الذي لا يبتسم إلا خداعا. لا يبكي (وإلا لفشل في الإضحاك) لكنك تعلم وهو يمثّل أن دموعه تترقرق في داخله. أنت تضحك وهو يعلم. أنت تضحك وهو يبكي.