القالب الجاهز

محمد رضا

TT

عندما أتاح المخرج الراحل يوسف شاهين للممثل الراحل محمود المليجي الخروج من شخصية المجرم والسفّـاح ورئيس العصابة والشرير الداهية، وذلك في فيلم «الأرض» (1970)، اكتشفناه وقد اكتشف نفسه. أعاد تقديم موهبته على نحو لم يتحها له أي مخرج آخر من قبل. الدور سمح له بالعودة إلى مخزونه من الموهبة، وكان، رحمه الله، موهوبا بلا ريب، واستخراج ما لم يُتح له من قبل استخراجه وتقديمه لنا.

ذلك القالب الذي يجد الممثل نفسه فيه خطرا، قد ينتج عنه بقاؤه فيه سجينا لا يستطيع مغادرته صوب أدوار أخرى تحمل آفاقا مختلفة. والسينما العربية حفلت بهذا النوع من القوالب. خذ مثلا جملة ممثلي فيلم «إسماعيل يس في الجيش» المعبّـرة تماما عن كل ما ورد من أفلام مماثلة («إسماعيل يس في الطيران»، «إسماعيل يس بوليس حربي»، «إسماعيل يس في الأسطول» الخ…) تجدهم جميعا عاشوا وماتوا داخل القالب الواحد بدءا بالممثل الأول إسماعيل يس. يليه طبعا رياض القصبجي الذي حقق في تلك السلسلة أعلى مراتب شهرته كـ«شاويش» حمش وقاس يفقد أعصابه دائما. إنه رد الفعل الغاضب والممتعض على كل فعل يقوم به بطل الفيلم. عبد السلام النابلسي في دور الإنسان الطيّب الذي يعرف كل شيء ويعد نفسه أعلى إدراكا من سواه.

ولأن زوزو حمدي الحكيم لم تكن وسيمة الملامح فهي ناسبت الدور الذي لعبته في فيلم صلاح أبو سيف «ريا وسكينة». ولأن برلنتي عبد الحميد كانت جميلة وأنثوية الدلالات تم وضعها في أدوار المرأة المغرية. وبقيت ماري منيب حبيسة شخصية الحماة القوية التي يهابها الأزواج وحافظ البعض على أدوارهم الدائمة فالطبيب في هذا الفيلم هو الطبيب في كل الأفلام الأخرى، كذلك حال المجرم وحال العسكري وحال القاضي وحال صبي المقهى إلخ… ماذا لو كان لدى كل واحد من هؤلاء موهبة أداء مختلفة؟ ماذا لو أن الواحد منهم بدأ التمثيل وفي باله توفير شخصيات متعددة قبل أن يجد نفسه حبيس النمط المتكرر؟ ألم تتحكّـم الملامح بتسويق صاحبها صوب الإطار الذي لا يتغيّـر؟

الجواب على كل هذه الأسئلة هو واحد: لقد تم دفن الموهبة الخاصّـة بكل منهم تحت تراب الدور الواحد لأن الجمهور أحبّـهم فيه أو لأن الجمهور يتعرّف على معظمهم من خلال ذلك الدور. ينسون اسم الممثل الأصلع الذي دائما ما لعب شخصية الطبيب الذي يقول: «إحنا عملنا اللي علينا والباقي على ربنا» لكنهم لن ينسوا أنه الطبيب الدائم. قد ينسون اسم الممثل الذي لعب دور الشخصية الضعيفة في «لك يوم يا ظالم» (محمد توفيق) لكنهم لن ينسوا أنه الشخصية الضعيفة في أكثر من فيلم. أو قد ينسون اسم فردوس محمد لكنهم لن ينسوا أنها دائما الأم الثكلى التي تبكي على ما يصيبها أو يصيب أبناءها...

والقولبة ما زالت دائمة. هل يمكن لأي من ممثلي اليوم أن يثبت أنه أفضل مما هو عليه وأن موهبته تمتد لما بعد الجاهز والمنمّط؟ الطريقة الوحيدة لإثبات ذلك هي أن تكون هناك أفلام مختلفة عن السائد… لكن هذه أيضا مفقودة.