«دقي يا مزيكا»

محمد رُضــا

TT

موسيقى الأفلام ليست مهنة طبـالين وزمارين وعازفي غيتارات. إنها مهنة مؤلفـين يهتدون إلى استخدام الموسيقى الصحيحة وليس فقط المناسبة. الموسيقى التي تساعد مشهدا معيـنا على مزيد من البوح، وليست الاعتماد عليه لكي تواكبه.

ولمزيد من التعريف، موسيقى الأفلام هي عنصر من عناصر الفيلم بعيدة عنها ومرتبطة بها في آن معا. هي عنصر كما الكتابة والتصوير والتمثيل عنصر، لكنها ليست العنصر الذي عليه أن يقترن بأي من هذه العناصر أو المهن وقت العمل الفعلي على الفيلم. بكلمات أخرى، الإخراج والتمثيل والتصوير يستند إلى السيناريو، لكن الموسيقى تستند إلى النتاج النهائي الكامل. عليه، فإنها تأتي بعدما أنجز صانعو الفيلم العمل على النحو الذي يريدون تقديمه للناس.

صحيح أن توقيت هذا الإسهام معروف ومطبـق في كل مكان، لكن الاستفادة من هذا التوقيت ليست متساوية. عندنا ينظر معظم الموسيقيين إلى المشهد كترتيب نوعي أساسا: هناك امرأة تخرج من المصعد وتمشي في عتمة الرواق وحيدة، فتتصاعد موسيقى تشويقية تريد أن تؤكد للمشاهد الإحساس بأن شيئا ما سيقع (وقد يقع أو لا يقع). صبي يركب دراجة هوائية ويقع منها، يعني موسيقى خفيفة مع استخدام بوقي لحظة الوقوع لضمان وصول نكتة ربما كانت مقصودة أو غير مقصودة.

فلاح في أرضه يزرع أو يحصد والتمهيد هو واحد: ناي حزين لإشعارنا بأن الرجل يعمل ويكد على أرضه ويرويها بعرق جبينه.

لكن، إذا ما ألغيت هذه النوتات التقليدية لم يتأثر المشهد، بل على الأرجح إنه سيتحسن. المرأة التي تمشي وحيدة بلا موسيقى تجعلك لا تعرف ما تنتظر. بالموسيقى تعرف أن الفيلم يحضّرك لوثبة مفاجئة. لكن عماد الفيلم التشويقي ألا تعرف وألا تتوقع.

صبي يركب دراجة هوائية بلا موسيقى مدعاة للمراقبة. سقوطه بلا موسيقى طنـانة يكفي لمعرفة أن الصبي تعثـر أو أنه لا يعرف كيف يركب الدراجة. ربما فعل السقوط هو أن يجد حال وقوعه ورقة مالية. في هذه الحالة، لا تؤدي موسيقى الأبواق الضاحكة أي غاية سوى إفساد الصلة بين الوقوع والاكتشاف.

الحال ذاته بالنسبة لمشهد الفلاح. راقب الفلاح من بعيد لنصف دقيقة بلا موسيقى، يصلك المفهوم كله أفضل وأكمل من وجود موسيقى معزوفة على الناي.

الأمثلة كثيرة ومتعددة ونحن نسيء إلى الأفلام باستخدام الموسيقى من دون فهم دورها المطلوب وكيفية ممارسته على نحو صحيح.

إلى حين، تكرر في الثقافة الفنية اعتبار أن الموسيقى المشاهدة على أفلام درامية وتاريخية وملحمية أو حربية هي خليفة الموسيقى الكلاسيكية. فيها شومان وفيها تشايكوفسكي وبوتشيني وستراوس وهايدن وموتزار وربما باخ على صعوبته. فيها الإدارة الدقيقة والقيادة المحسوبة لتلك المقطوعات الكلاسيكية، لكنها مؤلـفة حسب الحاجة إليها.

وإذ يتابع المؤلـف الفيلم الذي جرى توليفه في المونتاج ليحدد أين يتدخل وكيف، فإن المؤلف الموسيقي الجيـد هو من يرتاح أكثر لخلق فاصل معين بين ما يحدث أمام الكاميرا وما يكتبه من لحن. فمشهد مطاردة سيارات مناسبة لموسيقى تشويقية، لكنه يعلم أن المشهد جيد ولا يحتاج إلى بذلة إضافية يرتديها. ما يفعله إذا ما شعر بأن هناك مناسبة لموسيقى في هذا المشهد هو التعامل مع ما لا يـرى. مع البعد النفسي إذا ما استطاع صياغته.

هناك ذلك المشهد في فيلم «بوليت» (1968) الذي يركب فيه ستيف ماكوين سيارته، ملاحظا أن هناك سيارة تتبعه. موسيقى لالو شيفرن تلاحقه لتؤسس التالي الذي لا نستطيع التكهـن به قبل أن يقع. بذلك، لا تصور لنا وقوعه لا مسبقا ولا خلاله، بل تستوحيه. حال تنطلق عجلات السيارتين (المطاردَة والمطاردِة) لتبدأ المطاردة الفعلية تصمت الموسيقى تماما. لم يعد الفيلم بحاجة إليها. هذا هو وجه من وجوه التعامل مع ما لا يُرى.