تنطفئ الأنوار.. تنطفئ الكلمات

محمد رضا

TT

لأن الحديث الفني والثقافي بات محصورا بالصور المتحركة؛ تلفزيون وسينما، فإن المسرح في العالم العربي يبدو أبعد منالا مما كان عليه في أي زمن معاصر. وتزيد التطورات التقنية من ذلك الابتعاد، كونها تشتغل أيضا على الصورة وليس لديها وقت لتزكية المسرح أو الموسيقى الكلاسيكية أو المعارض الفنية مثلا، بما لا يتجاوز حدود المنغمسين في هذه الفنون.

خطرَ ذلك، وأكثر منه، لي وأنا أتابع مسرحية «لا ترافييتا» خلال مهرجان غليندبورن المقام حاليا.

مهرجان «Glyndebourne» مهرجان للأوبرا يقام سنويا في مدينة زاخرة بالاسم نفسه (في مقاطعة ساسكس) منذ عام 1934.. أسسه جون كريستي الذي رحل سنة 1962 عن 80 سنة. تسلمه بعده ابنه، جورج كريستي الذي توفي هذا العام. أما «لا ترافييتا» فهي أوبرا من ثلاثة فصول وضعها جيسيبي فردي، وعرضت لأول مرة سنة 1853 في دار الأوبرا في فينيسيا.

نتكلم إذن عن تاريخ وحضارة وثقافة وفن.. عن جمهور اليوم في الغرب الذي تمتلئ به صالات المسرح كل ليلة ليتابع عملا ما. نصف العالم فيه مسرح، نصفه الآخر خال منه.. أنت تعلم بأي نصف نعيش.

ها هي الصالة الكبيرة في مهرجان غليندبورن تمتلئ في طوابقها جميعا. دقائق ما قبل العرض، الجميع يتحدث بأصوات منخفضة. تستطيع أن ترقب الناس وهي تتهامس. عما تراها تتحدث؟ أسأل نفسي. لا يمكن أن يكون الحديث في أي من المواضيع الملتهبة التي تتناقلها الأخبار اليومية. غالبا ما يتهامس الحضور في هذه المحافل حول مسرحيات سابقة شاهدوها، أو عن حضور مبهر لممثلين وممثلات أدوا هذه المسرحية أو تلك. ذات مرة في لندن سمعت كلاما بين رجلين وزوجتيهما تبارى فيه ثلاثة منهم حول من يعرف أكثر عن مسرحيات وتواريخ وأسماء.. تماما كما نفعل نحن عاشقي السينما عندما نلتقي: ما الفيلم الذي أداه الممثل روبرت ميتشوم على كبر في آيرلندا؟ أو ما أول دور رئيس قامت به ريتا هايوورث؟ هل تستطيع أن تذكر عنوان الفيلم الذي جمع بين عمر الشريف وجان - بول بلموندو؟ وهكذا..

عندما تنطفئ أضواء المسرح تنطفئ أيضا الكلمات. كما لو أن الزر الذي استخدمه الموظف الموكل بالإضاءة يطفئ النور والأصوات معا. الاحترام الشديد للمسرح هو ثقافة حضور قائمة بحد ذاتها.. لا كلمة، ولا حركة، ولا هاتف يرن، ولا كاميرا تلتقط صورة. أنت هنا لغرض واحد؛ وواحد فقط، في هذه الفترة الزمنية وفي هذا المكان: مشاهدة مسرحية.

ثم.. ها هي: ثلاث ساعات من العرض الذي يعيد النبض إلى شرايين الحياة. وعندما تبدأ الموسيقى بالانسياب قبل أن تفتح الستارة عن المشهد الأول (لفيوليتا مستلقية على أرض المسرح تحت بقعة ضوء خافتة)، فإن صوتها يملأ المكان بأسره ويمتزج مباشرة مع الاستعداد الكامل لدخول تجربة تبدو بأسرها من خارج هذا الكون.

ما هذا الشيء الذي يستولي على القرار الإنساني بمتابعة عمل فني؟ ما ذلك الرابط اللغزي الواسع بين بعضنا وألوان الفنون الراقية؟ لماذا نشعر إزاءه بأننا نسيج منه متصل به كما لو أنه هو الذي أفرزنا ولسنا نحن من أفرزه؟ ثم هل لجوؤنا إلى أعمال مثل «سيدة الكاميليا» و«لا ترافييتا» و«آنا بولينا» هو رد على شروط حياتنا المعاصرة؟ هل «عطيل» و«روميو وجولييت» وأعمال روسيني وبيتهوفن وموتزار ومسرحية «دون جيوفاني» (والقائمة تطول) هي خلاص الإنسان من متاعب العصر وسموه المؤقت خارج نفسه القلقة؟

لا بد.. لكن السؤال الأصعب هو: لماذا الغرب هو الذي يعيش هذه الحالات الحضارية بينما ما زلنا نبحث في المواقع الأثرية عن حضاراتنا ونعتقد أنها هي التي تسود؟