بين الأفلام ـ «جرائم عليا» .. الالتزام بقوانين اللعبة والقفز فوق حبال الحقيقة

TT

عندما حقق المخرج الأفرو ـ اميركي كارل فرانكلين أول فيلم ذي بصمة في مسيرته، وكان «خطوة واحدة مزيفة» سنة 1991، كوّن سريعا صيتا حسنا كمخرج يتوق للمعالجة المشدودة في القصة البوليسية ولمنح شخصيات الفيلم عمقا حقيقيا ووجودا مميّزا. في فيلمه اللاحق «الشيطان في ثوب أزرق» أكـّد هذا المنحى مضيفا على الفيلم أجواء الفيلم «نوار» ذاتها. ثم استدار 180 درجة بفيلم «شيء واحد حقيقي» (1999) وهو دراما عاطفية تساعد على رفع مبيعات محارم الورق، بطلته ميريل ستريب ورينيه زلويغر.

مع «جرائم عليا» لا يمكن الا أن تتوقع أن يعود المخرج الى اسلوبه برشاقة. فالفيلم من الهامش العريض للأفلام البوليسية وفيه عنصر التحقيقات وفيه ممثلان جيدان هما أشلي جد ومورغن فريمان. ما الذي يمنع فرانكلين اذاً من العودة الى خط معالجاته المشدودة والمثيرة السابقة؟

ربما محاولة تنفيذ اللعبة بأمان. هل تذكر تلك المساجلات التي تقع عادة بين التحري ورئيسه حيث ينصحه الأخير (او يأمره ـ لا فرق): «التزم بالكتاب. لا تخرج عن القوانين. هذه ليست مسألة شخصية»؟ الحال نفسها مع فرانكلين، انه يريد الالتزام بقوانين اللعبة: قصة فيها قفز فوق حبال الحقيقة، وشخصيات لا تعلم متى تصدق ومتى تكذب ولماذا؟ ثم مفاجأة كبيرة في نهاية المطاف... وفي طي كل ذلك رسالة بعناوين عريضة.

الحبكة المثيرة للاهتمام تقودها محامية ناجحة (أشلي جد) واثقة من نفسها تمام الوثوق وسعيدة في حياتها الزوجية كثيرا. في أحد الأيام تكتشف أن زوجها (جيم كافيزيل) له ماض في الخدمة العسكرية. هذا يمكن غفرانه اذا ما كانت تحبه وهي تحبه فعلا. ولأنها في الأصل محامية تجد في نفسها الثقة لكي تدافع عنه في المحكمة العسكرية ... لكن ضد ماذا؟ هناك تهمة كبيرة مؤداها أن زوجها لم يشارك فقط في حملة عسكرية على قرية كولومبية بحثا عن عصابات المخدرات، بل انسجم كثيرا في ما يقوم به فقتل بضعة أفراد من أبناء القرية بدم بارد. هي لا تصدق ذلك. هو ينفي تماما انه هو الذي أطلق النار ويلقي التهمة على مجند آخر اذا ما نظرت اليه تتأكد من أنه خليق بمثل هذه الجرائم.

لكي تمنح زوجها فرصة أفضل للخروج بريئا من التهمة تستأجر خدمات محام له باع في المهام العسكرية (مورغن فريمان في ثاني لقاء معها بعد البوليسي الآخر «قبّل الفتيات» سنة 1997) وهذا يجهد معها لإثبات براءة الزوج، لكن هذه ليست نهاية النهايات. هناك تلك المفاجأة التي يحاول السيناريو اطلاقها كقنبلة مدوية التي تعطي إجابة مختلفة تماما عن قرار المحكمة العسكرية الأخير. وأنا لا أود أن أشرح ما أعنيه حتى لا أفسد النهاية والفيلم بأسره على القراء الذين وضعوا هذا الفيلم في برنامج سهرتهم، لكن لا بد من القول ان الفيلم لا يأتي بجديد على صعيد أفلام تحقيقات عسكرية عديدة شوهدت في السنوات الأخيرة (من «بضعة رجال جيدين» الى «قوانين اللعبة») ولا تمثيل أشلي جد أفضل مما ورد في فيلمها «خطورة مزدوجة» مثلا. كذلك فإن مورغن فريمان يبدو كما لو أنه يمارس الاداء الذي حفظه غيبا. رغم ذلك فان علاقة فرانكلين بفريمان الفنية حانية أكثر من علاقته بأشلي جد التي كانت بحاجة لعناية أفضل على صعيد تحسيس المشاهدين بأزمة امرأة تتوالى عليها الأحداث التي تقلب هناءها رأسا على عقب.

رسالة الفيلم التي تتلألأ من بعيد هي أن لا شيء يمكن الوثوق به في هذا العالم الذي نعيش به. وهي رسالة أكثر نصاعة في فيلم جودي فوستر الأخير «غرفة الفزع». هنا الداعي لهذا الاستشفاف أنه حتى المرأة ذات التجربة في حياة المحاكم والجرائم، قد تتحوّل الى ضحية كونها تزوّجت من شخص من دون التحقق في ماضيه.