«شهود الرحلة».. ارتحالات في اللون والمكان في معرض مهند العلاق الأخير

TT

تنتمي غالبية التجارب الأصيلة لذاتها، بعد أن تكون قد قطعت مسافة كافية عن مصادرها الأولية، في مسيرة البحث عن الذات والموضوع، وتمكنت من امتلاك الأدوات والمهارات اللازمة، وبعد أن تكون قد أسست لرؤيا وأفق يتسع للجديد، المدهش، والإنساني الجميل. في تجربة الفنان مهند العلاق، يبدو ذلك لافتاً، فهو في بحثه لاكتشاف أناه لا يحيلنا لسواه.

عرفت مهند العلاق حينما كان يعمل مع آخرين لتأسيس جمهورية للأمل، وحينما كان على أهبّة مفترقات طرق عدة: الحياة/ الموت، الشفاء/ المرض، اليأس/ الأمل، الفن/ الواجب، الالتزام/ الحرية.. كان ذلك بقاعدة للأنصار بكردستان العراق، مطلع الثمانينات. منحته الإقامة بالمشفى الميداني (غرفة حجرية صغيرة) فضلة وقت وفرصة للرسم، وبالواقع فقد كان يقاوم مرضه بالحبر الصيني أكثر مما بـ «الكورتيزون». في تلك التراجيديا كان الرسم هو شمعة الأمل في ليل الألم الطويل، وكان مفرحاً أن تراه على قيد الرسم/ الحياة.

والعلاق رسام ثقفته تجاربه الشخصية وتأسس معها. كان يحلم بمغادرة ضيق مدينة (الكوت) مسقط رأسه إلى فضاء أكثر اتساعاً، كي يستبدل قسوة الأحوال الخاصة والعامة بجنة الحلم/ الفن الفارهة: بغداد، لكنه يحرم من دخول اكاديمية الفنون الجميلة لرفضه مقايضة قبوله طالباً فيها بالانتماء لحزب السلطة.

بعد كردستان التقيته بدمشق، لم تكن صحته قد تحسنت كثيراً، لكنه بات يمتلك مرسماً، غرفة نومه ذاتها، والتي كانت رئة للاصدقاء حين تضيق الروح ويحتبس الهواء.

أقام العديد من المعارف الشخصية والمشتركة، قبل أن يدرس الفن اكاديميا بهنغاريا، منذ أواسط الثمانينات حتى أوائل التسعينات، ثم ليقيم ويعمل بهولندا التي التقيته فيها بعد عقدين من السنوات..

أكثر من عشرين عاماً ارتحالاً بحثاً عن الذات: الحرية، الفن، الوطن.

* تكونات

* قد يكون من حسن حظ العلاق، عدم قبوله طالباً في الأكاديمية، لأن ذلك قد زاد من طاقة العناد والتحدي لتقصي طريق الفن شخصياً، وللتحرر من ضغط التعاليم الأكاديمية، ولبناء نظام معرفي يعتمد التجربة والنقد. ان اطلاق روح البحث بديلاً عن المدرسة استلزم بذل الكثير من العمل ولإجراء الكثير من الاختبارات وعلى أكثر من مستوى، نظرياً وعملياً. فبقدر تطور عمل الفنان وتعمق رؤاه، فإن مادة العمل كانت احد شواغله، إذ كيف سيطابق أو يقاطع بحث الرؤيا مع طبيعة ونوعية الخامات المستخدمة. هذا القلق قاد العلاق ولغاية الآن، إلى تحفيز روح البحث عن المواد وعدم الركون للشائع منها، ينطبق ذلك أيضاً على التمظهرات التي تصوغ شكل العمل الفني، ضمن لوحة تقليدية وقد نفذت بخامات غير تقليدية، إلى أخرى تأخذ شكل المروحة أو الاكورديون، المطوية أو الكتاب.. الخ.

وإذا كانت نافذة المشغل تنفتح على أكثر من بحث وطريقة لتقديم العمل الفني فإنها تنفتح أيضاً على مثابرة في البحث والاكتشاف.. على مشهد الأنا/ العالم، وحيث أكثر من حدث، حلم، فرح نادر وعذاب.

رسم المشهد البيروتي عبر المديح العالي لظل الحرية المقاومة..

رسم «إعلاناً سياحياً» عن وطن، وطن تتناهبه الحروب والخطوب، كانت «حاج عمران» عنواناً له..

رافق شعراء يختارهم بعناية فائقة: سعدي يوسف، محمود درويش، ومهدي محمد علي، وآخرين، وكان همه في ذاك لا تقديم شهادة عن وقائع بقدر ما كان يمشهد ما لا يقال عبر ما يُحس ومن خلال فضاء شعري ممسرح بمكنة تشكيلية تستبطن المعنى ولا تأوله.. تنشغل بالكشف عن التأويل.

يندمج مع النص، يتوحد ثم ينفلت منه كي يراه عبر مصفّياته هو.. تمثل واقتراح في ما ندعوه لوحة ويسميه صلاة.. ان اللوحة تتجاوز معناها كممر للنجوى كي تكون هي الخلاص.

* ارتحالات

* رحلة الرسم والذهاب فيها بعيداً، رحلة الحياة، المدائن، الطرق، المنافي، والمرافئ: قادت الفنان لرؤية الكثير، ثم يعيد تكوينها بصرياً على قماشة اللوحة: مراكب هي بقية من قصيد أو نشيد أو نشيج تمخر عبر بحر من ضوء أو ذهول.

الشهر الماضي اختار الفنان، فضاء كاليري «بسلار» باوترخت، محطة له، مستذكراً مفاصل رحلته، سفنه ومرافئه، ومفرداً حيزاً لوجوه أعزائه، وهي جزء من انشغالات الفنان الأخيرة، هي مادة معرض متكامل تحت عنوان «وجوه من الرحلة».

هؤلاء هم رفاق الرحلة: وجوه ترشح من خلال بلورة الروح. ولأن هذا الاستذكار يتعمد بالحب فإنه قد اختار له شكل الأيقونة، بما يرفع الحب إلى مرتبة المقدس، وكما لو كانت الصورة الشخصية: شكلاً لمحتوى هو الدعاء أو الاستدعاء لمعنى الروح، وبأقل التفاصيل.

مهند العلاق فنان رؤيا، يقترح حكمته، تلك الحكمة التي كثيراً ما تكون الدهشة والامتاع عنواناً لها. ان جل وقته يمضي بين الرسم، الحلم، الألم والرحيل.

ولنا أن نحلم معه أيضاً، وان نرى إلى أين سيقودنا، عبر الآتي من السنوات والمدائن.. وأن نرى.