المخرج البولندي رومان بولانسكي يخطف «سعفة كان» بفيلم «معتدل» عن الهولوكوست

على عكس أفلام الهولوكوست الأخرى ليست هناك تلك النبرة الخطابية السمجة ولا مشاهد استدرار التعاطف الساذجة

TT

هناك يهود طيّبون ويهود غير طيّبين في فيلم «عازف البيانو» لرومان بولانسكي.

هناك، في الواقع، أناس أخيار وأناس أشرار من كل الأجناس التي في الفيلم. بل هناك ولأول مرة منذ سنوات يعلم الله مداها، شخصية ضابط ألماني يثير التعاطف. هذا وحده يفصل الفيلم الجديد لبولانسكي عن معظم الأفلام الأخرى التي تعرضت للهولوكوست والحقبة المؤسفة بأسرها.

هذا التمييز بين طيبين وأشرار ورد أصلا في مذكرات فلادسلاف سبيلمان التي نشرت أول مرة سنة .1945 حينها منعت السلطات الشيوعية توزيعه وسحبته من الأسواق ولم يتح للكتاب الظهور مجددا الا عندما أعيد طبعه سنة .1998 عامان قبل وفاة الكاتب.

وكاتب السيناريو رونالد هاروود يبدو ملتزما بالنص لدرجة التطويل. هناك مقدمة للأحداث الأساسية اللاحقة تقع في نحو نصف ساعة من الفيلم لو فصلتها عن باقي الفيلم او اخترت له مقدمة موجزة أخرى لما تغيّر الكثير.

نتعرّف على سبيلمان وهو يعزف البيانو في ستديو إذاعي عندما تتعرض وارسو للقصف لأول مرة. بداية قد تثير المقارنة بين الفن الجميل والواقع البشع. العازف الذي كان يحلق في أجواء عالمه الفني ضد ما كان يحلق فوق المدينة ويهبط عليها. أدريان برودي، ذاك الذي قدّمه سبايك لي في «صيف سام»، يهتز من مكانه عند أول انفجار، لكن يديه لا تتركان مفاتيح البيانو الا مع سقوط القنبلة الثانية الأقرب والأقوى صدى. من هذا المشهد الأول ننسل الى عالم فلاديسلاف حيث نتعرّف على عائلته التي تتكون من والديه وشقيقه (نلحظ أن علاقته مع شقيقه هذا متوترة وحادة طوال الوقت) وشقيقتيه. الجميع يتابع الوضع المتأزم آملين أن تتدخل بريطانيا وفرنسا للحد من جنوح هتلر وايقاف تهديداته. لكن سريعا ما تخيب هذه الآمال العريضة عندما يفيق الجميع ذات يوم على القوات الألمانية وهي تدخل وارسو. مستقبل عائلة سبيلمان، ومستقبل اليهود بأسرهم، بات على المحك بدءا من ذلك الوقت.

تبعات الاحتلال على اليهود البولنديين تبدأ بالظهور سريعا. يتعرّض الأب الى اهانة جنديين المانيين لم يتوقف لطرح التحية لهما. يصفعه أحدهما فيوقعه ثم يأمره بترك الرصيف والمشي في الشارع. بعد حين يصدر قرار بأن يضع اليهود كلهم شارة داوود على أذرعهم، وآخر بأن لا يحملوا أكثر من مبلغ ضئيل من المال. ثم يجيء الأمر بإخلائهم من ممتلكاتهم الى حي أقيم لهم ثم تم تسويره للفصل بينهم وبين باقي المدينة. عندما تتوالى الأحداث لتقدم لنا موقف فلاديسلاف من كل هذا، نستطيع أن نلقي نظرة الى ما سبق ونقرر أن تلك المقدمة العائلية ربما كانت موحية ومعلوماتية لكنها ليست ضرورية تماما. معظم الفيلم يدور حول فلاديسلاف وقد أصبح وحده. لقد تم إخلاء الحي (الغاتو) من اليهود ونقلهم الى قطارات تتوجه الى المجهول الذي ينتظرهم، لكن فلاديسلاف بقي في المدينة بفضل مساعدة رجل من «البوليس اليهودي غير المسلح» الذي أنشأه الألمان للمساعدة في إدارة شؤون اليهود. بقاؤه هذا وما ترتّـب عليه لاحقا من أحداث ليس فقط لب الفيلم ـ كقصة، بل ايضا لب الفيلم كحالة إنسانية تتجاوز (في رسالتها) الديانة التي ينتمي اليها بطل الفيلم وتنضوي عليها في الوقت ذاته. انها الأكثر إثارة للاهتمام من الدخول الموسع الى الموضوع، لأن رومان بولانسكي حينها، وحينها فقط، يصبح قادرا على عكس عزلة المرء في عالم غريب عليه وعنه وتجسيد المخاوف التي تنتابه كإنسان.

القوّة هنا ناتجة عن إشعارنا بوضع فلاديسلاف إنسانا خالصا. على عكس أفلام الهولوكوست الأخرى، ليست هناك تلك النبرة الخطابية السمجة، ولا مشاهد استدرار التعاطف الساذجة. ليس هناك ذلك المنحى المكرّس لجعل الفيلم ناطقا بلسان خطاب سياسي، ولو أن مثل هذه النتيجة واردة في المحصلة النهائية ـ لا حائل دونها.

بعد فصله عن أسرته، يهرب فلاديسلاف من العمل الشاق الذي وضع فيه (عامل بناء) ويتوجه الى عنوان عائلة بولندية (كاثوليكية) آوته الى حين كشف الغطاء عنه. جارة بولندية أخرى سمعت حركة داخل الشقة المفترض أن تكون مغلقة وأدركت أن شاغلها يهودي فصرخت طالبة النجدة. يهرب الى عنوان آخر يؤول الى الفتاة البولندية المسيحية التي كنا رأيناها من قبل المتزوجة الآن من رجل متعاطف. هذا يضع فلاديسلاف في شقة أخرى ويقفل بابها من الخارج لأنها ايضا شاغرة. تمر الأيام طويلة وبطيئة ويتعرّض فلاديسلاف في وجوده هناك الى الجوع والعطش والمرض. يُنقذ من الموت في آخر لحظة أكثر من مرة ويزداد نحولا وضعفا. خلال ذلك، تتصاعد المقاومة البولندية للاحتلال وترد القوّات الألمانية بقصف على المبنى الذي يٌعتقد أن المقاومة فيه. انه ذات المبنى وفلاديسلاف يحاول الخروج من الشقة التي تتعرض للقصف لكن الباب مقفول عليه. من ثقب في الجدار الذي يؤدي الى الشقة المجاورة يهرب ويعيش أياما في مستشفى مهجور يأكل بعض حبّات البطاطا التي وجدها، بعد ذلك يهرب مجددا عائدا الى الغاتو المهجور. وهناك تلك اللقطة التي لابد أنها ستبقى خالدة في الذاكرة: رجل وحيد يسير بين صفي مبان مهدمة تعكس الدمار الذاتي والاجتماعي بأسره.

في هذا الجزء الأخير من الفيلم، وبينما يشعر المشاهد بثقل وطأة السرد الذي دام أكثر مما يجب، نتعرّف على الضابط الألماني الذي يستمع الى فلاديسلاف وهو يعزف على بيانو قديم ويقرر أن يتركه وشأنه وبل أن يمدّه بالطعام. لكن الفترة كانت نهاية الوجود الألماني في المدينة. القوّات الروسية وصلت الى النهر القريب منها وتكاد تدخلها، والضابط يستعد للرحيل. يمنح فلاديسلاف معطفه السميك ويمضي. لكنه يقع في الأسر وفي مشهد مفبرك التأليف نراه يطلب من يهودي محرر أن يخبر فلاديسلاف أنه أسير وبحاجة الى مساعدته. ثم نرى عازف البيانو وهو يبحث عنه لمساعدته انما بلا نجاح. مفاهيم بولانسكيةهذا هو أول فيلم لرومان بولانسكي في موطنه الأول، بولندا، منذ 40 سنة. ولد هناك وتعرّض لأهوال النازية كونه يهوديا، لكنه نزح الى فرنسا وعاد الى بولندا شابا ثم نزح منها الى فرنسا ثانية ومنها الى أميركا التي هرب منها عندما تعرّض لتهمة مغازلة فتاة دون سن السادسة عشرة. في هوليوود أنجز بضعة أفلام واعدة أهمها «تشاينا تاون». في باريس أخرج بالفرنسية وبالانكليزية لكنه لم يسترد شيئا من تلك النفحة الفنية والوقع الثقافي الذي حققه في الفترتين البولندية والأميركية. هذا الفيلم يعيده الى الصدارة بنجاح يفوق نجاح فيلم كوستا- غافراس عن موضوع الهولوكوست الذي أخرجه تحت عنوان «آمين» وتم تقديمه في مهرجان برلين لكن بولانسكي لا يعول كثيرا على تجربته. لن ترى حياته الخاصة مترجمة او ممزوجة بحياة فلاديسلاف.كل ما هناك هو صدى كونه هو ايضا من رعيل الناجين وعايش الرعب ذاته. الطريق الذي يخطه المخرج ينأى به وبالفيلم عن اي عاطفيات ميلودرامية يدرك جيدا انها لا تخدم الفيلم. لكن الثمن هو أن الفيلم يأتي باردا. المشاهد ذات الوقع والقوّة ناتجة عن دكانة عالم فلاديسلاف وأزمته الإنسانية، لكنها تتألف من تحصيل الحاصل وليس على نحو مباشر هدفه الوصول الى هذا الوقع.

هذا المفهوم البولانسكي لكيفية معالجة موضوع، هو أساسا قريب من تجربته، ساد ايضا المفهوم الذي عالج به الممثل ادريان برودي شخصيته. انها مقنعة لكنها ليست بالضرورة جاذبة. قوية في محاولتها البقاء على قيد الحياة، ضعيفة في مواجهة محيطها الى درجة عدم البطولة. حتى البطولة الممكن استخلاصها من قوّة الإرادة مسلوبة منه لأنه، كما يبدو في الفيلم، استمد بقاءه على قيد الحياة من مواقف ليست من صنعه، استفاد منها حتى من دون تخطيط او مراوغة او طلب من عنده. وبرودي يمثل بأقل تقنيات التعبير، ملائم لما يقوم به وبالتالي مقنع، وهذا ما لا يمكن قوله عن وجود باقي الشخصيات التي في واقعها ظلال تتحرك من دون عمق او دلال تعاملوا مع النازيين قابلين ما يحدث للغالبية من اليهود، وبوجود آخرين حاولوا التميّز عن أترابهم بثرائهم ظنا أن ذلك سيعفيهم من العاقبة ذاتها، يفصل بولانسكي بين النوعين كما يفصل بين نوعين من البولنديين: متعاطفون مع فلاديسلاف (بين شخصيات الفيلم فقط) وآخرون متعاطفون مع النازيين. وبعد ذلك يقدم النازي الذي يقدم لليهودي يد المعونة التي يقبلها فلاديسلاف من دون كبرياء مزيّف او تردد. اللحظة التي يدرك فيها الألماني أن الرجل يتشبث بآخر ما بقي له من فرص حياة الا اذا تدخل ليوفر له الطعام والمأوى والدفء ويتستر على وجوده.

فيلم كهذا كان لابد له من مصوّر جيد ومصمم مناظر أكثر جودة. تم التصوير في وارسو كما في ستديوهات بابلسبيرغ الألمانية وقدّر لألان ستارسكي إعادة إنشاء الحي وتصوير بعض أهم مشاهد الفيلم في جزئه الأخير. هذا تم مزجه بالحي القديم في وارسو نفسها حيث وفـّر مدير التصوير بافل إيدلمان شاشة عريضة من الألوان الباهتة التي تناسب الفترة كما تناسب ذلك الوضع المعاش في حياة بطل الفيلم. بولانسكي اذاً لا يكترث لحشد مشاهد ساخنة الوقع من اي نوع، يجيد في المقابل ملكية السرد المتواصل والمثير للإهتمام بتفاصيل الحركة وتفاصيل تكوين اللقطة وعناصرها.