الشاب خالد نجم تركيبة ثلاثية في مهرجانات بيت الدين .. غنى بملء حنجرته رغم المنغصات

TT

كان الليل قد انتصف، والانتظار قد طال في «بيت الدين» حين اطل الشاب خالد من الجهة اليمنى للمسرح، يسير بهدوء غير معهود، على عكازين، متوجهاً الى كرسي، وضع له امام الفرقة الموسيقية، ليغني جلوساً، في تلك الامسية التي انتظرها محبوه في لبنان، وتمنوا لو يروه راقصاً ومتألقاً. لكن الظروف شاءت ان يصل فنانهم اليهم بعد ان كسر رجله، ونال برد الجبل اللبناني منه، وجلب له السعال الذي كان يباغته بين الاغنيات. وكأن هذا ما كان ينقصه بعد موجة الكلام الذي دار حول مقاطعة محتملة لحفلته في لبنان بسبب مشاركته في حفل للسلام غنت فيه الاسرائيلية نوا.

لكن خالد بدا وكأنه يريد ان يرمي بهذه المنغصات جميعها وراء ظهره، ويغمض عينيه ويغني بملء حنجرته، وكل ما استطاع تحريكه من جسده، جانحاً الى اغنياته العربية، تحديداً تلك المفعمة بالحب للجزائر، والشوق الى تراب الوطن ومدينته وهران. ولم تأت اغنية «عايشة»، وهي الوحيدة التي اداها بالفرنسية، الا مسكاً للختام. ردد الحضور مع خالد «دي دي» التي صنعت شهرته الاولى و«عبد القادر»، واستعصت كلمات اغنيات اخرى بسبب تباعد الهجمات، من دون ان يفقد الجمهور الشغف بما يسمع، فكم هو مذهل امر «الراي» وتلك الكلمات التي لا يلتقطها العربي المشرقي بسهولة، ولا يفهمها الاوروبي البتة، ومع ذلك فهو فن ينتظر ويحب ويدلل ويطرب له الملايين. مواويل خالد كانت تصدح، تلك الليلة، مخترقة غربتها عن الغيتارات الكهربائية، ونغمات «البوب» و«التكنو»، لتذكر بأنها رغم تلك الآلات الغربية التي ترافقها، هي في روحها قادمة من الحارات الجزائرية الشعبية، ومن افواه الحكماء، وحفلات الاعراس والختان، والاستماع اليها عن قرب هو اصغاء لضمير الجزائر، ونبض شوارعها، وآلام خالد الشخصية الذي يشكو «الغربة الصعبة الغدارة».

لم يكن خالد الذي يتهمه مواطنوه بالتفرنس ويأخذون عليه تلك الحلقة التي يضعها في اذنه، هو الذي يغني في «بيت الدين» فالشعر الحليق، والبدلة الداكنة، والغناء قاعداً جعله يبدو حزيناً ورصيناً ومبدعاً كبيراً. اذ ان الحنجرة كانت تكشف عن خامات صوتية بديعة تتراوح ما بين القوة والرقة، بحيث ان تقنية الاداء وحدها، كانت امراً يستحق الاصغاء، حتى وقت متأخر من الليل، حيث تلفع خالد، في نهاية الحفل، بالعلم الجزائري، وعاد ليتأبط عكازيته ويغادر المسرح، بعد ذاك الحفل الصعب الذي مر بأقل خسائر ممكنة.

الحفل لم يكن مخصصاً لخالد، على اي حال، فالبرنامج ثلاثي المشاركة، ابتدأه الموسيقي الفلسطيني سيمون شاهين مع فرقة قنطرة، وتوسطه الفنان الشعبي المصري حكيم، وانهاه خالد.

هذه التركيبة الثلاثية، التي بدت للذواقة من اللبنانيين، غير منسجمة، ليست بدعة مهرجانات بيت الدين، اذ ان الثلاثي يقوم بجولات مشتركة اميركية واوروبية، حيث يتعاضد الشعبي الجزائري الذي بات عالمياً، مع الشعبي المصري الذي يسعى للعالمية، وموسيقى سيمون شاهين التي لا تحتاج لواسطة من احد كي تنسكب في انحاء الروح كالماء العذب في فم عطشان يسعى للابتراد. فبعد احدى عشرة جائزة نالها سيمون شاهين وفرقته عن جدارة، اقل ما يقال فيه ان مهرجانات بيت الدين فازت به هذا العام، وان نصف الساعة التي خصصت له في تلك الامسية، تركت الناس في حالة نشوة لم تكتمل على امل العودة الى حفل خاص به اقيم في اليوم التالي.

فمعروفات اسطوانة «اللهب الازرق» الهبت المستمعين وهم يطربون الى تلك الموسيقى التي اروع ما فيها انها لا شرقية ولا غربية، انما هي محاولة فرج مبتكرة، لا تغمط الآلات منفردة او مجتمعة ومندمجة حقها في استعراض عبقريتها. لقد كان سيمون شاهين باختطافية حركته وسرعتها رائعاً وهو يتنقل بين العود والكمان. لكن تلك اللحظات الساحرة لم تستمر طويلاً، وترك المجال امام حكيم ليأخذ حصته، فأطال وأتعب البعض، اذ ان ساعة ونصف ساعة لجمهور المهرجانات الذي ادمن الموسيقى المتطلبة والمشغولة باحتراف، لا يحتمل بالضرورة ايقاعات حكيم الرتيبة، واغنياته التي تبدأ بطلعات تشي بأنها مختلفة ثم سرعان ما تصبح نغماً مكرراً عن التي سبقتها، تنقذها كلمات تشير بطرافتها واستعارتها من اليومي المعاش.

واذا كان وجود حكيم في تلك الامسية بين طموحين الى التطوير والتجديد، وهما خالد وسيمون شاهين، قد بدا نافراً، فلا بد ان له فائدة قصوى وشديدة الاهمية، وهي الاتعاظ من الفرق بين ما استطاع ان يبلغه الغناء الشعبي الجزائري مع ما عرف بجيل الشباب، ومنهم خالد الذي يصر على انه لم يعد شاباً، وما يتدحرج اليه الشعب المصري مع نجمه حكيم الذي كل ما يغنيه، على ما يبدو هو «الفرفشة» و«الهيصة»، وهذا شاهد منه الكثير في بيت الدين. ومع ذلك لا بد لحكيم اذا كان يطمح للغناء الشعبي المصري بمكانة كالتي وصل اليها «الراي»، وهذا واضح من جولاته بصحبة خالد، ان يقول لنفسه صادقاً: «ما تعلمته يا ابني من الصعيد خميرة طيبة، لكنها لا تكفي لتصنع وحدها خبزاً شهياً تتلقفه الملايين وتتهافت عليه».