طريق توم هانكس إلى الأوسكار الثالث يمر من هنا.. مخرج «جمال أميركي» يعود بـ«الطريق إلى الهلاك»

TT

في العام 1999 بينما كان المنتج المخضرم رتشارد ف. زانوك يتابع تصوير فيلم «شروط التعامل» في الصحراء المغربية، تسلم بالبريد الخاص كتابا من 286 صفحة أرسله اليه ابنه دين. الكتاب رواية بعنوان Road To Perdition للكاتب ماكس ألان كولنز. رواية مزوّدة برسومات (من الفنان الإنجليزي رتشارد بيرس راينر). الابن كان اتصل بوالده قبل ذلك بثلاثة أيام ونقل اليه حماسه لفكرة انتاج فيلم مبني على تلك الرواية. الأب قرأ الرواية وبارك لابنه اختياره واقترح عليه ارسال المشروع الى ستيف سبيلبرغ في شركة «دريمووركس». بعد أيام قليلة تسلم دين من ستيفن رسالة موجزة تفيد قبوله انتاج الفيلم بالمشاركة. الخطوة التالية ايجاد كاتب سيناريو جيد، وفي تلك الآونة كان الإنجليزي (ايضا) ديفيد سلف متاحا. لقد لخص كتابا ضخما (من نحو 1000 صفحة) حول أزمة الصواريخ الكوبية الى سيناريو فيلم «13 يوما». الفيلم لم يحقق نجاحا تجاريا، لكن سلْفْ (وتكتب Self) حصد اعجابا أتاح له معالجة هذا الموضوع البوليسي/ الخيالي. وعندما انتهى من السيناريو قام دين زانوك بإرسال نسخة الى توم هانكس الذي كان انتهى لتوه من تصوير «معزول» وهانكس وافق إثر القراءة. وتستطيع، حال مشاهدة الفيلم الذي خرج للعرض يوم الجمعة الماضي، معرفة ما الذي جذب الممثل الكبير الى المشروع.

* العائلة التي لم تكن

* عنوان الفيلم مزدوج. في مشهد يقع تقريبا في منتصف الفيلم يقرر مايكل سوليفان (توم هانكس) التوجه الى بلدة صغيرة اسمها «بيرديشن» والكلمة ذاتها تعني «الهلاك» (كما الجحيم) والمعنيان، اسم البلدة ووصف الحالة، مجسدّان جيدا. هذا الفيلم قصة رجل وابنه على الطريق الى المكانين معا. وكل شيء يتهاوى سريعا. يبدأ الفيلم مشيدا صورة رجل متماسك وعائلة متحابة وينتهي وقد اندثر كل شيء بأسرع مما كان معتقدا. البناء العائلي لمايكل سوليفان كان أكثر هشاشة مما اعتقد لكن السقوط ليس فعلا داخليا ناتجا عن ضعف العلاقات الداخلية، بل فعل خارجي كان منح تلك العائلة معني كاذبا للاستقرار. ما أن سحب منها حتى تهاوى المكان على رأسها.

يبدأ الفيلم بمايكل الابن (تايلر هاوشلن) ينظر الى البحر أمامه ويتحدث مقدما ما سيلي. ثم نعود قليلا الى الوراء فالفترة الفاصلة بين الزمن الذي يتم فيه تقديم الصبي وتلك التي يروي حولها ذكرياته قد لا تتعدى الساعات او الأيام. الذكريات التي ينضح بها الصبي ما زالت حارّة، قريبة، غير ملتبسة. انه جالس الى طاولة العشاء في بيت العائلة مع امه (جنيفر جاسون لي) وشقيقه الأصغر بيتر (ليام آكن)، حين تطلب منه والدته إخبار أبيه بأن العشاء جاهز يصعد الى الدور الثاني من البيت ويرى والده (هانكس) من الردهة وهو يخلع ثياب العمل ويضع العدّة على السرير: مسدس كبير. مايكل الابن لا يعرف صنعة مايكل الأب. لاحقا ما يضطر والده لإخباره أن جون روني (بول نيومان)، رئيس العصابة الآيرلندية المنظمة آواه حين عاد من الحرب باحثا عن العمل. أعطاه هذا البيت، بارك له هذه العائلة واعتبره مثل ابن ثان له. ولا يزال مايكل ـ الأب يعمل لحسابه الى اليوم. طبيعة العمل يكتشفها مايكل الابن بنفسه ذات ليلة ممطرة: يتسلل وراء أبيه الى كاراج ويشاهده يصفّي أعداء جون روني. العملية لم تكن محسوبة. لكن كونور روني (دانيال كريغ)، ابن روني الأب الفعلي، يخرج عن وصيّة أبيه بعدم اللجوء الى العنف ويطلق النار على أحد أعضاء العصابة. عندما حاول رجلا ذلك العضو فتح النار عالجهما مايكل سوليفان فأرداهما... أمام عيني ولده الصغير انما من دون علمه بوجوده.

مع هذه الحادثة يبدأ كل شيء بالتهاوي. مايكل سوليفان ـ الأب يكتشف أن قربه من جون روني لا يعني أن المسافة العاطفية بينهما هي القريبة. جون، كما يفصح لمايكل لاحقا، لن يبديه عن ابنه على الرغم من طيش ابنه ورعونته وسرقته له. «لن أقتل ابني» بالتالي هناك ضحية واحدة محتملة: مايكل نفسه وعائلته. كونور داهم بيت مايكل وقتل زوجته وابنه بيتر وها هو مايكل الأب ومايكل الابن على الطريق يجوبان بعض الريف الأميركي المحيط بمدينة شيكاغو حيث حاول مايكل اللجوء الى المافيا الإيطالية لإيوائه وحمايته وتركه ينتقم من كونور كما يريد. لكن هذه، برئاسة فرانك نيتي (ستانلي توشي) ترفض بل تستجيب لرغبة جون روني وتستأجر قاتلا محترفا اسمه ماكغواير (جود لو) لتصفية مايكل.

* خطان متوازيان

* لا داعي لسرد التفاصيل. فيلم «الطريق الى الهلاك» يستدعي اكتشافها على النحو الموقوت الذي تعتمده وبالصياغة الدرامية التي اختيرت لها. انه فيلم عصابات لكنه ليس فيلم اكشن. انه فيلم عنيف لكنه ليس دمويا. تشويقي ومثير لكنه ليس رخيصا ونطناطا بين أساليب حديثة ومؤثرات خاطفة. سام منديس يقدّم هنا فيلما ينتمي بالصورة وبالروح الى السينما البوليسية في الثلاثينات (زمن الأحداث) والأربعينات، عندما كان هناك وقت يُمارس بكل حرية من أجل أن يُبنى الفيلم دراميا وجماليا على النحو الصحيح. انه الدجاجة التي تعيش حياتها في المزرعة بحرية مقابل الدجاجة المصندقة التي تُحشى بالكيماويات لنمو سريع ونحر أسرع.

«الطريق الى الهلاك» يسير على خطين معا ومن دون عوائق. من ناحية هو قصة بوليسية تدور في عالم العصابات المنظمة في الفترة الاقتصادية الصعبة من الحياة الأميركية، ومن ناحية أخرى هو عن العلاقة بين الأب وابنه (كلاهما مايكل). الفيلم هنا مروي من وجهة نظر الابن الذي نعود اليه بعد المشهد النهائي وهو لا يزال ينظر الى البحر ويضع خاتمة ناطقة لذكرياته القريبة. وهذا السرد يؤمّن الحديث عن العلاقة بين الأب وابنه وتأثيرها عليهما. فبينما يتعلم مايكل الابن كل ما لم يكن باديا له من قبل حول عالم أبيه ويضم في داخله الصورة العنيفة التي تتكرر أمامه ثم يشترك فيها دفاعا عن والده، كان والده يدرك للمرة الأولى أن مبرراته لخدمة جون روني كانت واهية. ان اعتقاده أن جون روني لن يتخلى عنه لأنه بمثابة ابن له لم تكن صحيحة. في نهاية المطاف يكتشف مايكل الأب أنه ليس الابن المفضل لروني ولا يستطيع أن يكون. وتأثير كل ذلك مضاعفا حيال حقيقة أن عائلته هو، وزوجته وولداه، تتأثر تلقائيا بذلك الوهم الذي عاشه طويلا.

من اللقطة الأولى الفيلم ملك مدير التصوير جون ل. كونراد، هذا يبني عالما داكنا وجميلا في آن واحد. مشاهده الداخلية لا يبزّها في قدراتها على إيجاز البيئة النفسية والاجتماعية المحيطة، سوى مشاهده الخارجية السابحة في فضاء الريف الأميركي. لكن لا المشاهد الداخلية ولا المشاهد الخارجية مقدّمة كصور للذكرى، بل هي موجزة، محددة لا وقت يضيع في استلهام مكنوناتها بل تجد هذه المكنونات طريقها الى المشاهد مباشرة. إضاءة هول مبتسرة. اللون الذي يستخدمه بني وأسود ورمادي (باستثناء المشاهد الريفية الجميلة وإن كانت بدورها غير ربيعية مبهجة) وكل ذلك يمنح الفيلم خامة الأسلوب القديم في المعالجة الفنية. كذلك يوفرها سياسة المخرج ومدير التصوير في أحجام اللقطات وزوايا التقاطها. اللقطات البعيدة والقريبة جدا على حد سواء. زمن اللقطة المتوخاة وتوليف جيل بيلكوك المتأني.

سام ميندس بدوره يبدو جاهزا لاحترام قوانين الفيلم البوليسي الكلاسيكي. هذا الفيلم يختلف عن عمله السابق «جمال أميركي» ليس فقط في القصة والنوع، بل ايضا في نبرة الحديث والمعالجة والصورة الموظفة لغاية ايصال الفحوى. وبينما كان ميندس ترك لسيناريو ألان بول الطغيان على الفيلم السابق، يشترك ومدير تصويره هول في منح «الطريق الى الهلاك» ملكيته الفنية الخاصة من دون أن يتجاهل معطيات سيناريو ديفيد سلف الموحية ولا تلك المشاهد التي تتركز فيها مفاتيح العلاقات بين شخصيات الفيلم.

الى ذلك، فإن اللحظات السابقة مباشرة لانفجار العنف على حين غرّة من أهم خصوصيات هذا العمل فنيا. ميندس يمهّد جيدا. تعلم أن اللقطات التي يختارها حين يقطع بين هانكس وجود لو في مشهد المقهى مثل تسلق قمة جبل وعند الوصول سينفجر شيء ما. رغم ذلك يأتي الانفجار مفاجئا في قوته، خاطفا في تأثيره.

توم هانكس في كل ذلك، وتحت ملابس شتوية ثقيلة، يرفض أن يتنازل قيد أنملة عن الجدية المطروحة في الفيلم. كثيرون من نجوم اليوم يعتقدون أنهم يقدمون خدمة لأنفسهم وللفيلم اذا ما خففوا من دكانة الشخصية وثقلها، لكن هانكس يقدّمها كما يجب أن تُقدّم. سريعا ما تتعرّف عليه وتقبله: هناك أناس مثل مايكل سوليفان وهؤلاء الناس هكذا يتصرفون وهكذا يبدون. هانكس في تقديمه دور المجرم لأول مرة، يحافظ على ملكيته التامة. انه لا يزال الممثل المفضل بصرف النظر عن الموقع الذي يختاره، وهو هنا يثير التعاطف رغم شخصيته لأنه يحاول حماية ابنه من مستقبل غامض ومن عصابة تلاحقه. في العموم، كل الممثلين (خصوصا جود لو في دور القاتل الكئيب والخسيس ماكغواير) جيدون، لكن الفيلم سيلتصق بهانكس وقد يكون طريقه للأوسكار الثالث في ربيع العام المقبل.

«الطريق الى الهلاك» يذكر بأفلام أخرى: «العرّاب» عن المافيا الإيطالية والعلاقة العائلية الحميمة، «بوني وكلايد» عن الثنائي سارق المصارف في الشرق الأميركي خلال الحقبة ذاتها و«ميلر كروسينغ» من حيث دورانه ايضا في إطار المافيا الآيرلندية. لكنه يبقى فيلما أصليا وقائما بحد ذاته. الصبي في الفيلم يفتح صفحات روايات «البالب فيكشن» والى هذا النوع البوليسي الخاص ينتمي الفيلم أساسا.