أوبرا «آريودانتي» لـ هاندل: موسيقى لا تغيب عن مشاعر الإنسان

TT

قاموس «اكسفورد» الموسيقي يحصي قرابة سبعين عملا دراميا موسيقيا في حياة هاندل (1685 ـ 1759)، موزعة بين فني الاوبرا والاوراتوريو. والمدهش ان جميع هذه الاعمال ذات حضور حي في النشاط الموسيقي اليوم. فليس هناك عمل منسي، بل على العكس، كل واحد حقق اكثر من عرض واكثر من تسجيل. هذا اذا ما تجاوز عمل «مسايا» وحده عشرات التسجيلات ومئات العروض. ولأنني لم اتجاوز الخمسة والعشرين عملاً دراميا، هو مجموع ما توفرت عليه في مكتبتي الشخصية، اشعر مع كل عمل جديد احصل عليه وكأنني احقق اكتشافا، ولكنني سرعان ما اعرف ان هذا العمل الجديد سبق ان عزف وسجل اكثر من مرة، من قبل اكثر من قائد اوركسترا واكثر من فرقة عزف ومغنين. فأي احتفاء بهذا الموسيقي المدهش، الذي يفضله الانجليزي تافنر حتى على باخ؟.

بين يدي آخر اصدار لاوبرا «آريودانتي» Ariodante عن عرض حي قدمته «اوركسترا دولة بوفاريا» تحت قيادة «ايفور بولتون» عام 2000 يناير (كانون الثاني). ودليل النشر الموسيقي يذكر اصدارين سابقين تقوم بدور البطولة في احدهما الميتسو سوبرانو الانجليزية جانيت بيكر واحسب ان اداءها يسمو على اداء المغنية الايرلندية آن موراي بطلة التسجيل الذي بين يدي الآن. ففي صوتها ضرب من التوتر اسهم التسجيل الرديء في خنقه، ولكن جناحي «هاندل» ارحب، في نسيجهما الموسيقي. وزحمة ألحانهما واغانيهما، من ان يخذلا مغنيا او تسجيلا غير ماهر التقنية. وضع هاندل هذه الاوبرا في لندن عام 1734، في موسم تعامله الاول مع «كوفن غاردن». ولذلك تتمتع بخصائص الاوبرات الأخرى في هذه المرحلة: فهناك مشهد باليه موسيقي في كل فصل مثلا، واروعها هنا باليه الحلم والكابوس الذي يلم بالبطلة «جينيفرا» في آخر الفصل الثاني.

اوبرا «آريودانتي» واحدة من اغنى اوبرات هاندل بالالحان لانها تضم قرابة اربعين اغنية (منها الحان فواصل سيمفونية وباليه وكورس). وهذه الاغاني هي التي تأخذ بيد الاحداث وبيد المستمع معا: الاميرة الاسكتلندية «جينيفرا» تحب الفارس «آريودانتي» (تقوم بدور الاولى السوبرانو «جون روجرز» وبدور الثاني «موراي» التي اشرنا إليها والصوت الانثوي بدور الرجل أمر مألوف في اوبرا مرحلة الباروك). ولكن الدوق الشرير «بولينيسو»، الذي يطمح بتاج الاميرة، يتآمر مع الوصيفة ليحطم الفارس المحب بفعل شيطان الغيرة، فيجعل الوصيفة تأخذ ملابس الاميرة عند نومها وتخرج له على موعد غرامي خادع، على مرأى من العاشق المسكين الذي تدفعه الغيرة إلى محاولة الانتحار في البحر. الملك يؤخذ بالخديعة ايضا فيتنكر لابنته البريئة ويلقيها في السجن. وهي تدفع إلى كل هذه العتمة: انتحار حبيبها ولعنة ابيها والسجن، دون معرفة السبب. اغاني الفصل الاول الفرحة بفعل لقاءات الحب ومباهج الملك السعيد تنحدر إلى الحان نصف مضيئة او معتمة، مثل الحان الشر على لسان «بولينيسو» (يقوم بالدور كريستوفر روبسون وهو من طبقة «كاونترتينور» وتقابل السوبرانوا لدى المرأة)، التي تذكر بالحان «إياغو» الذي يوقع بـ «عطيل» في اوبرا فيردي الشهيرة:

«إذا ما كانت الخديعة تثمر نجاحا فسوف اطلق الحقيقة إلى الابد ان من يبحث عن الحق وحده لن يحصل على السعادة..» ومثل لحن الخيبة في حنجرة البطل «آريودانتي» حين يرى المشهد الخادع:

«ألا اسعدي ايتها البغي الغادرة بين ذراعي حبيبك.

إن خيانتك اوقعتني بين براثن الموت.

ولكنني سأعود كظل معتم وشبح غامض للعقاب».

هذه الاغنية، التي تمتد قرابة اثنتي عشرة دقيقة، لهي درة تاج هذا العمل وقلبه الأسيان فاللحن متهادٍ متفجع ومنذر يحيطه صوت الوتريات: العليا مكتمة Muted والسفلى مكتفية بالنبر الخفيض Pizzicato. وان التصفيق في العرض الحي لا يكفي لاعادة الاغنية لمرة واحدة ربما، في حين املك ان اعيدها حد الاشباع في العزلة مع قطعة الاسطوانة المعدنية.

«آريودانتي» يعود فعلا، فقد انقذ من الغرق، ليحقق انتقامه، ولكن الوصيفة «دليندا» (تقوم بدورها السوبرانو جولي كوفمان) تعترف له بفعل الخديعة وانها لبست ثياب «جينيفرا» ارضاء للدوق، فيكشف الجميع عن براءة الاميرة وتنتهي الاوبرا بمباهج الرضا والزواج.

الاوبرا تمتد لثلاث ساعات لا يشغل فيها الحوار المنغم Recitative إلا حيزا زمنياً صغيراً، في حين تتدفق الالحان في اغنيات معبرة عن شتى اللواعج الانسانية، وهذه واحدة من اروع مميزات موسيقى هاندل في اعماله الدرامية. ان مشاعر الانسان لا تغيب فيها بل هي تتمثلها في أعلى الدرجات الفنية. واذا كانت اوبرا مثل «آريودانتي» غير شائعة تماما فالسبب، إلى جانب طولها شواهد الباليه فيها، وهي امور لا تلائم الذائقة الحديثة، في ما تتطلبه من مهارات خاصة لدى المغنين تؤهلهم لاداء ادوارها والحانها. الاداء في هذا التسجيل جميل ولكنه لا يشبع العارف بموسيقى هاندل. واحسب ان تقنيات التسجيل عن العرض المسرحي الحي كانت ضعيفة لحد حالت دون وصول اصوات المغنين واصوات آلات الاوركسترا بوضوح ومباشرة ودفء.

Handel: Ariodante (Farao Classics)