مشاعر المرأة العربية كما لا يعرفها الرجل أمام جمهور أوروبي

الصحف الألمانية تشيد بالممثلة هدى الهلالي في «قطط مايوركا»

TT

«فن الحكي هو اكثر من مجرد قصص وحكايات تزخر بعوالم الجن والخيال الجامح. انه ابحار في الأجواء المحظورة أو رغبات مستترة تحت طبقات من سلطة الاعراف والمجتمع واللاوعي. الحكي بالنسبة لي هو حياة ولحظة حية في ذاكرتي، نذوب معها مسافات الزمان والمكان، التي تفصل بيني وبين الماضي القريب منه والبعيد». هكذا تعرف شهرزاد بغداد الحديثة هدى الهلالي، عوالم صباها وشبابها بين أحياء بغداد واسواقها والكاظمية، فحين يبدأ الناس في الكاظمية حركة يومهم المعتادة، يكون سكان الاحياء الاخرى من بغداد يستعدون لحظتها لمغادرة غرف النوم، كما قالت في كتابها «من بغداد الى البصرة» الصادر عن دار النشر الالمانية Palmyra.

ان شهرزاد بغداد الحديثة هي غير شهرزاد الازل ومثلها في الوقت ذاته. فقد درست الادب الالماني والعلوم الاسلامية والسينما بالمانيا منذ عام 1967 وهي تعيش في المنفى الاضطراري بعيدة عن الوطن قريبة منه عبر حكاياتها وسردها الممسرح. اما ما يجمعها بشهرزاد «الف ليلة وليلة»، فهو اختلاق الحكايات من اجل المشاركة في العمل على ايقاف مسلسل ابادة النساء وعناء الآباء والامهات وبؤس الاطفال على يد شهريار. في كنف اجواء ضيافة عربية، وكان الجمهور الالماني على موعد مع العرض المسرحي الحكواتي للفنانة العراقية هدى الهلالي والذي يحمل عنوان «قطط مايوركا» وذلك في اطار افتتاح الموسم الخريفي المسرحي للمجمع الثقافي لمدينة هانوفر Pavillon «بابل» الذي يشرف عليه الفنان المغربي عبد الفتاح الديوري والمشتمل على عروض من الارجنتين واليابان وروسيا بالاضافة الى المانيا.

في ظل اجواء شرقية ترشح بالألوان والموسيقى العربية، برزت الهلالي مسربلة بسواد زيها العراقي البلدي وقد حملت على كاهلها، كما تفعل النساء العربيات وهن عائدات من السوق، قفة من الحلفاء بألوان زاهية، لتفتح امام جمهور كله الماني، نافذة على عالم شرقي ثر بالمواقف الانسانية المؤثرة، المستوحاة من اجواء بغداد السلم وبغداد الحرب وبغداد الحصار. مشاهد طافحة بالمشاعر العميقة واللحظات الشاعرية في لغة المانية مسرحية تتراوح ما بين الكوميديا السوداء والحلم الدرامي. ان الصور الفنية، التي تصوغها الهلالي في أعمالها، كأنها افلام سينمائية تبثها على شاشة مخيلة الجمهور. كأنها تحفرها، بأدوات تعتمد العبارة والحركة وقوة الايماء والدقة في رصد الانفعالات والاحاسيس الانسانية للنساء العربيات، انها تفتح امام جمهورها كوة للإطلال على الحياة التي عاشتها وما زالت تعيشها في ذاكرتها بعيدة عن مرتع طفولتها. تمنحه تأشيرة مقاسمتها جزءا من المعاناة والتأرجح بين الوطن والمنفى.

«فمن خلال تقمص ادوار شخصياتي» تقول الهلالي «لا اعود اذكر ان كنت في مكان ما في المانيا أم في بغداد». هذا الشعور ليس هو شعور الهلالي وحدها، وانما يقاسمها فيه الجمهور، الذي هو بدوره لا يعود، في حالة انتشائه، يفرق ان كان في الشرق ام في الغرب.

«انها امرأة تستحق كل الاحترام، ليس لمجرد قسمات وجهها، لا، ولكن لدقة ملاحظتها وقدرتها على التصنيف ومنحه قوة عمق اضافية، انها ممثلة وحكواتية. ومصدر مصداقية فن هدى الهلالي هو حبها لوطنها». بهذه الشهادة نوهت جريدة مدينة جيفهورن بالفنانة العراقية، كما اعدت المحطة التلفزيونية الأولى الالمانية A.R.D برنامجا مطولا تحت عنوان «هدى الهلالي بين بغداد وهامبورغ». ان هدى الهلالي، كما اشادت بذلك الصحف الالمانية غير ما مرة، تعتبر سيدة الحكي العربي باللغة الالمانية. فمنذ خمس عشرة سنة وهي تعمل بوعي، من خلال امسياتها المسرحية الحكواتية التي تمتد احيانا حتى مطلع الفجر، على المساهمة، عبر المشاهد المفعمة بالحيوية وروح التفاؤل وذكاء النساء العربيات، في تصحيح صورة المرأة العربية في تصورات واذهان جزء لا يستهان به من الجمهور الأوروبي ودفعهم الى اعادة حساباتهم ومراجعة منظوراتهم حيال المرأة العربية الملثمة المسربلة بالسواد. انها تجعل، من خلال حكاياتها الممسرحة، الجمهور وخاصة النساء اللاتي يعتبرن انفسهن اكثر حظا وتحررا من النساء العربيات، يكتشفن أن «وراء اللثام ثراء»، وان قراءة ما بين سطور يوميات عالم نسائي ملثم، لا يمكن الوصول اليها من خلال فرضيات اعلامية جاهزة تمارس قوة فعلها اليومي على المتلقي القارئ أو المستمع.

ان الهلالي، تلامس في عرضها «قطط مايوركا» عبر قوة السرد والعفوية وفنية الخطاب، وذلك من غير تملق أو رياء أو مهادنة، مواطن ضعف جمهورها. فهي تتناول في مواضيع حياتية متباينة صبر وقوة التحمل عند المرأة العربية ومرونتها، لتجعل منها مرآة واضحة امام الجمهور، كما تتناول مواضيع ذاتية، وهي في الواقع مواضيع كل البعيدين او المبعدين عن اوطانهم وحقهم في الحلم بالوطن والعيش فيه بسلام. وذلك عبر أدوات فنية عربية عريقة عمادها الخطاب والسرد المدعوم بالايماء والحركة، ومجالها التجمعات البشرية، التي عرفتها في الأسواق، ابتداء من سوق عكاظ وحكايات الانس والمسامرة وحتى «الحلقة» خارج اسوار المدن. انها ادوات تطويع السرد الشفاهي الى الحدث المعتمد على الاختزال والفضاءات المطلقة الحرة وخلق اجواء فرجة لا تعمد الى ممارسة الابهار أو اثارة أحاسيس الجمهور. ان قوة وسر الكاتبة والمخرجة هدى الهلالي، يكمنان في قدرتها على منح الجمهور امكانية الاطلالة على الفضاءات السرية للنساء العربيات، الفضاءات المحرمة، الموصدة دون الرجال، الذين يمنع عليهم بأي حال من الاحوال حتى الاقتراب منها، لأنها فضاءات الاحاسيس الداخلية والمشاعر والهموم النسائية، التي لا تتقاسمها غالبا المرأة العربية، ولا المرأة عامة، الا مع بنات جنسها. لقد مارست الهلالي، في هذه الامسية، كما مارست في كل مهرجان عالمي حضرته منذ بدايتها الحكي المسرحي في متوسط الثمانينات، على الجمهور قوة سحر فن الحكي المسرحي العربي، جعلته لا يبرح مكانه وكأن على رأسه الطير. لقد سرقته الهلالي هذه الليلة، من عالمه المعلب، وجعلته يوقف الزمن، يعطل ذاكرة المواعيد والتليفون النقال ويسترخي فوق الزرابي العربية لينتشي بلحظة وديعة خارج عقارب الزمن ليدرك في الاخير انه في حضرة شهرزاد، التي ما زالت تدافع عن بنات جنسها، لكنها من لحم ودم، شهرزاد الليلة الحاضرة.