سينما الملاحم التاريخية تعود بعد عقود الجفاف من صلاح الدين إلى هانيبال والإسكندر العظيم

محمد رضا

TT

لو قدّر للمخرج العربي مصطفى العقاد تحقيق فيلمه ـ الحلم «صلاح الدين» الذي صرف له نحو عشرين سنة من المحاولات الدؤوبة، لكان الآن سبّاقا للموجة الجديدة التي يتم التحضير لها في هوليوود التي تتعاطى، كـ«صلاح الدين» و«الرسالة» و«عمر المختار» من قبله، الشؤون التاريخية والدينية على نحو ملحمي شبيه بتلك السينما التي بزغ عنها في الماضي «كليوباترا»، «الوصايا العشر»، «كو فاديس»، «بن هور» وسواها من الأفلام ذات الإنتاجات الكبيرة.

لكن مصطفى ليس اميركيا حتى يٌسّوق فكرته بين ستديوهات هوليوود. انه عربي ورؤيته عربية وموضوعه عربي، على عكس الموضوعات التي تحضّر لها هوليوود الآن. بالتالي، مشكلة «صلاح الدين» هي أن الوسيلة الوحيدة لإطلاقه على النحو الذي يعبر فيه عن النظرة العربية للحرب الصليبية على المقدسات وفلسطين هي أن يتم تمويله عربيا. وهذا ما أمضى العقاد عقدين على الأقل وهو يحاول تذليله مواجها صدا غريبا حتى في أحوج الأوقات الى فيلم بمثل هذا النسيج التاريخي ذي الظلال الممتدة على الوضع الحاضر.

الحال الآن هو أن العقاد انما كان يفكر، سينمائيا، قبل أوانه. فها هي السينما التاريخية تعود وعلى نحو كبير لم نعهده منذ كبوة «كليوباترا» التجارية سنة 1963 الذي تكلّف حينها نحو 50 مليون دولار (اي قرابة 150 مليون دولار في حسبة هذه الأيام) ولم يستطع إثارة الرأي العام لمشاهدته واسترجاع كلفته.

العودة الى التاريخ على نحو مكلف واستعراضي كبير، كما كان الحال في الثلاثينات والأربعينات غالبا، بدأت بتجربة المخرج البريطاني الأصل ريدلي سكوت التي موّلتها الشركة الأميركية دريمووركس تحت عنوان «المصارع» قبل سنة ونصف السنة. الفيلم، الذي تحدّث عن قائد الجيش الروماني الذي يتحدى الإمبراطور الشاب في حلبة القتال الروماني التقليدية، برهن على أن الجمهور يشتهي مثل هذه الأعمال ممهورة بأسماء جديدة مثل راسل كراو وواكين فينكس، ومستفيدة من التقدم التكنولوجي الذي بات قادرا على مزج العالم الحي بالعالم الخيالي الذي يتم انتاجه على الكومبيوتر. بذلك يمكن خلق جموع من ألوف الأشخاص وخلفيات طبيعية وتأثيرات أجوائية شتى من دون أن يبرح الفيلم مواقعه المختارة بحثا عنها او صرف ميزانيات كبيرة لاستحواذها.

واذ جمع «المصارع» نحو 500 مليون دولار عالمية (وحصد فوقها بضع أوسكارات تؤكد نوعيته الفنية) أدركت هوليوود أنه لون من الأفلام يشتاق اليها الجمهور العريض على اختلاف فئاته. وقبل أن يختفي أثر «المصارع» تماما حط في الصالات فيلم «بيرل هاربور» الذي هو من نوع مختلف، انما لا يقل ضخامة اذ يتناول الغارة اليابانية الكبيرة على الولايات المتحدة. نجاح «بيرل هاربور» الذي جمع أكثر من 500 مليون دولار حول العالم بدوره تسبب في تشجيع هوليوود على التفكير في انتهاج الدرب الذي كانت خلفته وراءها غير لاوية قبل عقود قليلة: الفيلم التاريخي الكبير. النتيجة بضعة أفلام تحضّر للتصوير خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة.

* ريدلي سكوت سيعود الى «المصارع» ليقدّم فيلما تكميليا لقصة الأول تقع أحداثها بعد خمسة عشر عاما. هذا الفيلم سيكون من تمويل دريمووركس (معقل ستيفن سبيلبرغ) ويونيفرسال وثلاثة من كتّاب السيناريو يوالون العمل عليه حاليا. راسل كراو لن يكون في الفيلم الجديد (الا اذا كانت هناك استعانة بمشاهد فلاش باك) على أساس أنه قتل في نهاية الفيلم الأول.

* وريدلي سكوت ايضا يقف وراء مشروع جديد عن الحملة الصليبية يأمل بالانصراف اليه كاملا بعد انتهائه من «المصارع 2».

* المخرج وولفغانغ بيترسون (من أفلامه «العاصفة التامة»، «طائرة الرئيس»، «في خط النار») منكب على «تروي» الذي يروي قصة حصان طروادة وقصصا أخرى مستقاة من «الإلياذة» لهوميروس، على أن يبدأ تصويره في مطلع العام المقبل. براد بت هو الذي سيقود البطولة. بيترسون ايضا يعمل على فيلم ضخم آخر ينتقل به بضعة عقود الى الأمام لكنه يبقى في إطار التاريخي هو قصة حياة المكتشف البريطاني أرنست شاكلتون، التي ـ وبالمناسبة ـ كانت موضوعا لمسلسل تلفزيوني قام ببطولته الإنجليزي كينيث براناه.

* فيلمان عن «الاسكندر العظيم» القائد الإغريقي المعروف، واحد يحضره المنتج دينو ديلا رونتيس على أمل قيام المخرج باز لورمان («الطاحونة الحمراء») بإخراجه من بطولة ليوناردو دي كابريو (ولو أنه دور يصلح أكثر لراسل كراو) بميزانية مئة وخمسين مليون دولار. الفيلم الآخر يقف وراءه المخرج أوليفر ستون الذي اذا ما سار كل شيء حسب الخطة المرسومة سيبدأ خلال أسابيع قليلة واضعا كولين فارل في البطولة.

* وفيلمان عن «هانيبال»، ليس هانيبال لكتر، آكل لحوم البشر كما يعكسه انطوني هوبكنز الذي أدخل عنوة في ثقافة الشبيبة في السنوات العشر الأخيرة، بل عن هانيبال القائد الفينيقي الذي كابد غمار الحرب ضد الرومان راميا الى احتلال ايطاليا عبر الانتقال من قرطاجة الى فرنسا ثم الهبوط من على قمم الحبال الايطالية ـ السويسرية الى الشمال الإيطالي على أمل مفاجأة العدو. الفيلم الأول في هذا السياق قد يكون من بطولة فين ديزل (بطل فيلم «***») ويباشر بتصويره في الربيع المقبل. الثاني غير مؤكد تماما، لكن المنتج دوغلاس ويك يحضّر له في الفترة ذاتها، وهو أحد المنتجين المشتغلين على «المصارع 2».

* وفي الإطار الإغريقي ايضا «أبواب النار» الذي يحضره المخرج مايكل مان («علي»، «حرارة» الخ...) لحساب يونيفرسال من بطولة جورج كلوني عن المعركة التي واجه فيها نحو 7000 مقاتل اسبرطي ويوناني جيش الفرس الذي تألف من أكثر من مليون مقاتل (بعض المصادر تقول مليوني مقاتل) سنة 480 قبل الميلاد. فوكس بدورها لديها نسخة مماثلة بعنوان «300 اسبرطي» تدور ايضا في رحى معركة ثرموبليا الشهيرة.

* التصوير في المغرب

* كل ما سبق يدخل في نطاق استراتيجية جديدة تندفع اليها هوليوود مفادها الإقدام على تحقيق أفلام ـ أحداث. الفيلم الذي يأخذ باهتمام الجمهور العريض متجاوزا الحدود الضيقة للفيلم المنتمي الى النمط السائد. «انقاذ المجند رايان» فتح الباب أمام عودة السينما الحربية، «الطريق الى الهلاك» يستهل موجة من أفلام العصابات الجديدة، و«المصارع» أزاح عائق الخوف من الإقدام على تحقيق مثل هذه الملاحم التاريخية. والعديد من هذه الأفلام سيتم تصويره في المغرب.

لقد جرّب ريدلي سكوت المغرب أكثر من مرة (صوّر اجزاء من «المصارع» و«سقوط بلاك هوك») هناك. ولعبت المغرب دور الصحراء السودانية في الفيلم الجديد (المنتمي ايضا الى نوع من التاريخ) «الريشات الأربع». كما لعبت دور بيروت في فيلم «لعبة جاسوسية» لتوني سكوت (شقيق ريدلي). ولا ينحصر النشاط المتزايد فيها على المغرب فقط، بل تؤمها انتاجات فرنسية وايطالية بصورة متواصلة. أحد هذه الإنتاجات «استريكس وأوبليكس: المهمة كليوباترا»، فيلم تاريخي آخر ولو على نطاق كوميدي المخرج اوليفر ستون قصد المغرب على أمل نيل الدعم الإداري والإنتاجي بمباركة جلالة الملك محمد السادس ودينو ديلا رونتيس تبعه لاستكشاف الإمكانيات. فالمغرب صار البلد العربي الأول الذي يؤمّن الى جانب المواقع الصحراوية المتعددة الإمكانيات البشرية والإنتاجية المختلفة التي يحتاجها فيلم كهذا، تليه تونس وعلى بعد الأردن.

* الحملة الصليبية قادمة

* ما ستحمله هذه الأفلام الى جانب الترفيه وإثارة الخيال المفعم بالفروسية والمعارك الكبيرة وبالحروب التي سبقت عصر البارود، رسائل ومضامين مختلفة قد تشارك التعليق من باب خلفي على حال العالم اليوم. لكن الأكثر قدرة على الربط والتعليق سيكون فيلم ريدلي سكوت عن الحملة الصليبية (الذي لا يزال بلا عنوان للآن) كونها تتعلق بالحملة الأوروبية على فلسطين والمواقف المضادة لكافة المعنيين الذين دخلوها.

طبعا لا يمكن هنا الا العودة الى موضوع صلاح الدين الذي يملكه مصطفى العقاد وملاحظة كيف أن المخرج العربي كان سبّاقا في طرح الفكرة. المستجدات الحاضرة تجعل الفكرة أكثر الحاحا خصوصا أن لا مشروع آخر يصب في ذات التاريخ وذات الشخصيات سيحمل النظرة العربية كاملة حتى ولو عكست نقدا للحملة الأوروبية ذاتها. واذا ما فشل الممولون والمسؤولون العرب في مهمة إنجاز هذا الفيلم فإن فراغا اعلاميا كبيرا هو كل ما سوف نخرج به لجانب تخلفنا الواضح في مسايرة السينما العالمية وفي هذه الأوقات العصيبة بالذات.