الحظوظ والأبراج من ودع البصّارة إلى كومبيوتر الفضائيات

TT

غابت محررة ركن الابراج في احدى المجلات النسائية لأسباب قاهرة، فاستدركت رئيسة التحرير الامر وقامت بتكليف محررة ركن «طبق الاسبوع» اعداد الابراج. وعبثا حاولت المحررة ان تعتذر لأن الامر ليس من اختصاصها، وان التي تحرر هذا الركن متخصصة في علم الفلك، لكن رئيسة التحرير اصرت على طلبها لانقاذ الموقف، خاصة ان المجلة كانت على الطابع.

وصدر العدد، وكانت المفاجأة عندما تلقت المجلة عددا كبيرا من الاتصالات الهاتفية، والفاكسات ورسائل الـ «ايميل»، يثني اصحابها على الطريقة الجديدة التي قدمت بها المجلة ركن الابراج التي جاءت اقرب الى صفات اصحابها، واكثر صدقا في تنبؤاتها، ومنذ ذلك اليوم اصبحت محررة «طبق الاسبوع» المحررة الجديدة لركن الابراج.

هذه الحادثة، لا نسوقها لتأكيد حالة، فليس هناك اي دليل قاطع على ان عشرات الزوايا التي تنشر في الصحف والمجلات او تبث على شاشات الفضائيات حول الحظوظ والابراج تعد من قبل متخصصين في علم الفلك، بل تعد استنادا الى مزاجيات واجتهادات واستقراءات وتنبؤات مختلفة يقترب بعضها، بالمصادفة، من توقعات او طموحات صاحب هذا البرج او ذاك.

* سيرة.. وانفتحت

* ونحن اليوم نقف مع برامج الابراج التي تقدمها اكثر الفضائيات، التي تستقطب اعدادا كبيرة من المشاهدين الذين يتصلون بمعديها معلقين آمالا كبيرة على ما سيقال لهم عن احداث الغيب والمستقبل، خاصة ما يتعلق بشؤون العمل والمال والعلاقات العاطفية والاسرية والاجتماعية والسفر والزواج.

وسنعترف بأن الحلقة الخاصة التي بثها «زافين» على شاشة فضائية «المستقبل» في برنامجها «سيرة وانفتحت» في سهرة الاثنين التاسع عشر من اغسطس (آب) حول موضوع الحظوظ والابراج، طرحت هذا الموضوع بكثير من الموضوعية الواعية، وافسحت الآراء لاطراف عديدة من مختلف الاختصاصات ليدلي اصحابها بدلائهم في هذا الموضوع الذي يشغل الناس وكأنهم يرون فيه شارة الخلاص المرتقبة مما هم فيه من معاناة، حيث تعدهم بالفرج من ضيق ذات اليد، او الحصول على عمل، او لقاء الشريك المناسب ولو بعد عام من الزمن.

* بين التنجيم وعلم الفلك

* وفي جميع مثل هذه البرامج والندوات والحوارات، هناك من يحاول الفصل بين علم الفلك كعلم عرفه الانسان منذ القديم واهتم به، وبين عملية «التنجيم بالابراج» التي يستسهلها البعض لدرجة اصبحت معها مجرد لعبة للاثارة واشباع الفضول او التسلية او الاسترزاق، وكأن هذه الظاهرة قد انتقلت من بين يدي البصارة التي ترمي الودع على الارض وتوحي بانها تقرأ فيه المستقبل، الى مقدمة برنامج الابراج على الفضائىات التي تضع امامها جهاز كومبيوتر تضغط على ازراره بكثير من الجدية قبل ان تقرأ للسائل طالعه.

* هذا هو علم الفلك

* يمكننا ان نلخص علم الفلك، كما يقول الباحث النفساني الدكتور سمير طنب في كتابه «أنت وأبراج 2002» انه علم قديم عرف قبل اربعة آلاف سنة في بلاد الكلدان (العراق حاليا)، حيث كان هناك فلكيون عرّافون يفحصون قبة السماء فاكتشفوا اولا سبعة كواكب، وحددوا ابراجا من سبع طبقات واسموا كل برج باسم واحد من هذه الكواكب، ومن خلال مراصدهم حللوا الايقاع النهاري والليلي، ودورة الفصول، وقسموا الزمن فجعلوا الاسبوع سبعة ايام مخصصين لكل يوم كوكبا: الاثنين القمر، الثلاثاء المريخ... الخ، وهكذا تم اكتشاف الروزنامة الزمنية.

وتطور هذا العلم.. ففي بابل اعتبر العلماء ان مؤثرات آتية من السماء، كانت السبب الاساسي للكوارث والنكبات، فمزجوا بين علم الفلك والطب والدين والعلوم الانسانية، ودونوا ذلك في مصادر ضخمة، وحينها ولد بحق علم الفلك وعلم الكواكب الذي اعتبر في ما بعد محور فن تحديد الامزجة والطباع، وفن رؤية المستقبل من خلال دراسة الكواكب والنجوم.

بعد عصر بلاد ما بين النهرين، بلغت هذه العلوم ضفاف النيل، وكان العلماء المصريون يعتقدون ان تأثيرات الكواكب هي السبب لما يحصل على الارض من الانهيار في الممالك والثورات والاوبئة والجوع. والمعروف ايضا ان العرب عرفوا علم الفلك والتنجيم منذ القديم، ومارسته قبائل الجاهلية، وتطور بعد ظهور الاسلام في الجزيرة العربية ليصبح احد العلوم الاساسية التي اخذها الغرب عن العرب. اما في عصرنا الحالي فقد تم الانتقال الى دراسة ما يسمى علم الفلك الفردي وتم الانتقال الى وضع (الاوروسكوب) او ما يسمى الطالع الفلكي.

وهناك دراسات كثيرة لا مجال لتفصيلها هنا حول علم الفلك الفردي، وتأثيرات الشمس، ونظام كوبرنيكوس، والدائرة الفلكية، والبرج الطالع، والدورة القمرية وتأثير كل ذلك على الحياة اليومية للانسان، بالاضافة الى تأثيرات المنازل القمرية، والاسبوع الفلكي، والكواكب التي تؤثر في حياة الانسان وهي الشمس، القمر، المريخ، عطارد، المشتري، الزهرة وزحل بسبب قربها النسبي من الارض. اما الكواكب الأخرى البعيدة نسبيا، مثل اورانوس ونبتون وبلوتو، فتأثيرها اضعف.

* التعلق بالغيبيات

* على الرغم من عدم وجود احصائيات دقيقة حول متابعي الابراج في الكتب والصحف والمجلات وعلى شاشات الفضائيات، الا ان العدد كبير جدا من خلال المشاهدات الملموسة، كما ان كتب الابراج تسجل ارقاما عالية في المبيع، وان كثيرين من قراء الصحف والمجلات ـ خاصة النساء ـ يقتنونها من اجل مطالعة الابراج في محاولة لتفسير ومعرفة الحظ والمستقبل.

ومع بساطة تداول ومدلول كلمة «الحظ» في المجتمع، الا ان المشاركين في البرنامج اختلفوا كثيرا حول تفسير هذه الكلمة، خاصة بعد ان روى لهم احد الشبان اللبنانيين قصة نجاته من موت محقق في حادث سقوط طائرة نيجيرية عندما فتح الحادث فجوة في جسم الطائرة وهي تهوي، وكانت بجانب مقعده فرمى نفسه منها، وكانت الطائرة قد وصلت الى موضع سطح قريب قبل ان ترتطم بالارض وتحترق بمن فيها في حين نجا هو بأعجوبة، فهل كان هذا حظا، ام مبادرة.. ام شجاعة نادرة.. ام ان طالعه الفلكي كان في حالة حسنة.. ام ماذا؟

الذين كانوا يمثلون الجانب العلمي من المشاركين رفضوا رفضا قاطعا مثل هذه التهويمات والتفسيرات التي هي غير مركبة والتي تقع للانسان، اذ ليس لها تفسير علمي حتى في علم الفلك بمفهومه العلمي، وأبدوا قلقهم من اتساع انشغال الذاكرة الشعبية بهذه الخرافات التي تساهم اجهزة الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة في الترويج لها، وفسروا لجوء الانسان العصري الى مثل هذه الزوايا والبرامج بمعاناته من ازماته والبحث عن الامان المستقبلي وهو الذي يبحث عبثا عن الامان الاجتماعي، والامان المادي، والامان الصحي. من هنا فإن زوايا برامج الابراج تخاطب مكامن في نفسية الفرد، اكثر من وضع حلول له، ولما كان اكثر هذه «التنبؤات» لا يتحقق فإن عملية التنجيم بالابراج عن هذه الطريقة تشكل كشفا سطحيا لعلم الفلك. ومن هنا يجب عدم الخلط بين علم الفلك وعمليات التنجيم التي تربطنا باللامرئي، خاصة انه ليست هناك اي طريقة لمحاسبة هذا المنجم او تلك المنجمة في حال عدم تحقق ما تنبأوا به.

* الرأي الآخر

* اما الجانب الآخر في البرنامج، جانب الدعوة للتنجيم، فكانت تمثله السيدة كارمن التي تقدم زاوية صباحية عن الابراج، على الفضائية نفسها، والتي لها في المكتبات كتاب من تأليفها حول هذا الموضوع.

رفضت الآراء التي طرحها اصحاب التوجه العلمي، والتي حملوا فيها على التنجيم، لانهم ـ في رأيها ـ ليسوا اختصاصيين في هذا الموضوع، وليس من حقهم ان يناقشوا فيه. كما قالت ان المتخصصين في هذا المجال، في لبنان والوطن العربي، قلائل، وان العرب اليوم لا يهتمون بهذا العلم على عكس «الاجانب»، ولهذا ينظرون هذه النظرة السلبية الى التنجيم بالابراج. واشارت بصورة او بأخرى الى الشك في امر الذين يعدون مثل هذه الزوايا في الصحف والمجلات، ولم تعترف بكتاب واحد من الكتب المؤلفة حول الموضوع، واصرت على ان حظ الانسان مرتبط بأمرين: الابراج ومدى اجتهاده والجهود التي عليه ان يبذلها في تحسين وضعه واحواله والسعي الى الرزق والى «المصاري» وعدم اليأس.

واستغرب احد الذين كانوا جالسين معنا يتابعون البرنامج عدم ايرادها نصيحتها الذهبية التي ترددها كل صباح في برنامجها عندما تطلب الى المشاهد ان يقود سيارته بانتباه وكأن كل الناس يمتلكون سيارات خاصة.

ولم تقتنع البتة بما قاله احد المشاركين (الدكتور ديراني) بأن العلاقات البشرية هي علاقات اجتماعية تفاعلية، وليست مجرد حظ ونصيب كما يطلق على حالات الزواج في الفشل والنجاح. اما مشاركات الحضور او المشاهدين فلم تضف جديدا، لانها كانت مجرد ملاحظات فردية عن الحظ الذي حالف احدهم فربح الجائزة الاولى في اليانصيب، والحظ الذي لم يحالف آخر لأنه طرق جميع الابواب بحثا عن عمل منذ اكثر من عام ولم يوفق الى اي عمل. وتحول الحوار الموضوعي الذي بدأ به معد البرنامج في النصف الثاني من الحلقة الى ما يسمى «حوار الطرشان» من دون ان تكون هناك نقطة لقاء مهمة بين المشاركين.