فانيسا ريدغريف التي لم تتوقف رغم حدة معاركها

ليست هناك الكثير من الأدوار المكتوبة بعمق لكن هناك الكثير من الأدوار التي يمكن تأديتها بعمق

TT

خلال وجودها في القاهرة لم تشأ فانيسا ريدغريف اجراء مقابلات صحافية رغم تودد الصحافة اليها هناك وحبها لها. كانت هادئة، ترقب وتبتسم، تنشغل بما حولها ولا تنخرط فيه. ودودة انما مع درع غير منظور ترتديه اليوم أينما ذهبت. سبب في عدم رغبتها إجراء أحاديث صحافية، ومع صحافة عربية بالتحديد، يعود الى هذا الدرع. بكلمات أخرى، كانت تعلم أن السؤال السياسي لا بد أن يتسلل الى قائمة الأسئلة التي يعدها الصحافي، وهي لم ترد الخوض في هذا المجال. لقد خاضت فيه بما يكفي، وعانت منه ما يكفي ايضا.

لكن المقابلة التالية لم تتم في القاهرة بل في لوس انجليس. كانت الممثلة التي ولدت في 30/1/1937، وصلت للحديث عن فيلم «العاصفة المتجمعة» (اوThe Gathering Storm ) حيث تلعب فيه دور زوجة الزعيم البريطاني ونستون تشرشل (الذي قام به ألبرت فيني)، تلك التي شاركته الحياة العاطفية والاجتماعية والسياسية وبقت، كما كان الحال في الأمس أكثر مما هو عليه اليوم، في الخلفية. ومن ناحية نظرية لا يهم أين تتم المقابلة، اذا لم ترد فانيسا الخوض في السياسة فلن تخوض فيها لا في لوس انجليس ولا في القاهرة. والناقد عليه أن يحترم ذلك. أن يكون متفهما حذرها وعلى حذر أن يكسر ايقاع الثقة الذي تؤسسه الدقائق الأولى من المقابلة.

ولم تكن تلك المقابلة الأولى، لكن الأولى منذ نحو 25 سنة... أيام ما كانت العاصفة المتجمعة الوحيدة في أفق حياة الممثلة سياسية. كانت أيامها اليسارية النشطة وذات الموقف المعلن في كل محفل. اليسارية التي أمّت مهرجانات ضد الصهيونية ووقفت الى جانب القضية الفلسطينية حتى قبل أن تقف تلك القضية على قدميها الصغيرتين فعلا. الممثلة التي أدركت أن لديها رسالة تعلنها للناس حول معاناة شعب فقامت سنة 1977 بتقديم فيلم «الفلسطينيون» الذي أخرجه روي باترسبي والتي صعدت منصة الأوسكار في العام 1978 لتستلم جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم «جوليا» فإذا بها تستغل الفرصة وتقدم للقضية الفلسطينية أكبر وأهم هدية اعلامية حصلت عليها في تاريخها.

العاصفة التي أثارتها بقيت مستعرة لسنوات طويلة. فانيسا التي هاجمت الصهيونية وأدت تحيتها للقضية الفلسطينية تعرّضت لحملة شرسة لم تتعرض اليها ممثلة سينمائية من قبل او من بعد (من كانت مستعدة لحذو حذوها وهي تشهد شراسة تلك الحملة؟)، لكن ذلك لم يفتت من عزيمتها، ولأنها ذات مبدأ ثابت لا تزال الى اليوم تحتضن ذات الايمان المطلق. الإختلاف الوحيد، انها الآن ليست في وارد العمل السياسي وإشغال نفسها بمزيد من المشاكل الناتجة عن هذا النحو.

* مع علامات السينما

* لكن حتى في حمى تلك الحملة المعادية لم تستطع هوليوود التخلي عنها تؤكد ذلك اي نظرة، ولو كانت عابرة، على لائحة أفلامها. فانيسا لم تتوقف عن العمل كونها واجهت تلك الحملة بقوّة ودراية وثبات ولم تسمح للهجوم عليها أن ينال من عزيمتها.

في أدوارها كثيرا ما عكست شخصية المرأة القوية.

أعلن الممثل لورنس أوليفييه ولادتها على المسرح الملكي في لندن. إنها إبنة صديقه وزميله مايكل ريدغريف والممثلة التي كانت من أفضل بنات عصرها راشل كمبسون. وتخرجت من معهد «سنترال سكول للخطاب والدراما». أمّت المسرح وفي أولى خطواتها هناك أثارت حماس النقاد فكتب أحدهم سنة 1961 «لا أحد أكثر نضجا او أجمل شكلا شغل ناظري» وآخر كتب «أفضل ما على الخشبة المسرحية هذه الأيام.

في تلك الفترة كان كل ما تريده فانيسا في حياتها أن تعتلي خشبة المسرح حيث الصقل الحقيقي لموهبة الفنان. كانت تعلم أن السينما تنظر اليها بعين من يشتهي ويمتنع. كانت تعتبرها طويلة، وجمالها من النوع الذي تخالطه السمات المرغوبة من أنوثة وتقنيات تعبير على الوجه وطلاقة في الحركة. لكن هذه الممانعة كانت وقتية. بدءا من العام 1966 (وبعد فيلمين روائيين فقط أحدهما تلفزيوني) تسلمت فانيسا دفة القيادة في السينما. بطيئا أول الأمر لكن بثبات. ظهرت في علامات سينمائية من تلك الفترة مع كارل رايز لعبت دور الزوجة في «مورغان»، تحت إدارة الإيطالي الكبير مايكأنجلو أنطونيوني مثلت في «انفجار» (1966)، وللمخرج فرد زنيمان ظهرت في «رجل لكل الفصول» ثم عادت الى كارل رايز في «ايزادورا» حيث تم ترشيحها للأوسكار لأول مرة.

رحلتها كانت بدأت وضمّت لاحقا «جوليا»، «جريمة في قطار الشرق السريع»، «أغاثا»، «وذربي»، «هجوم الفرقة الخفيفة» ونحو 90 فيلما سينمائيا وتلفزيونيا الى اليوم. في السنوات العشر الأخيرة لا تضمن أنك ستجدها في البطولة، ولو أنها أحيانا لا تزال تتصدر الأعمال التي تقوم بها مثل «العاصفة المتجمعة» و«الجريمة والعقاب» وفيلمها المقبل «افتراض»، لكنها دوما ما تشع على الشاشة بصرف النظر عن حجم الدور الذي تقوم به. انها كما لو كانت التذكير بكل لمعة فنية لدى كل ممثل جيد صعد خشبة المسرح او وقف أمام الكاميرا... المعيار الذي تُقاس به جدية الممثل وبراعته.

* تشرشل وزوجته

* ليست هناك نصوص كثيرة كتبت عن السيدة كليمي، زوجة ونستون تشرشل، من أين إذاً استمدت معلوماتك عنها؟

ـ تحاول أن تقترب من الشخصية التي تمثلها قدر استطاعتك. أن تدخل فيها. صحيح ليس هناك الكثير مما كتب حولها... ليس بمقدار ما كتب حول تشرشل بالطبع. لكن ما مكنني من دخول حياتها ومعرفتها عن كثب ابنتها ماري. وجدتها حين تعرّفت عليها امرأة ذات ثقافة عالية وأحببت كل ما عكسته من معرفة وحديث وثقافة. وهي امرأة من أكثر النساء اللواتي قابلتهن إثارة للبهجة.

* ماذا تعلمت عن تشرشل بفضل هذا الفيلم؟

ـ الشائع هو أن تشرشل لم يقرأ في المستقبل جيدا. لقد ارتكب أخطاء عديدة، لكنه أقدم على أفعال صائبة ايضا في مقدمتها تحذيره من صعود النازية. من ناحية أخرى لديه مواقف لا يمكن سوى معاداتها... لقد وقف ضد منح الهند استقلالها مثلا. أعتقد أنني أريد القول أنه كان إنسانا يحمل وجهتي النظر. كان جنديا مقداما ودخل الحرب كجندي، وفي الوقت ذاته كانت لديه مواقف مثيرة لعداء الجميع بما فيه الحزب الذي انتمى اليه.

* فيلم كهذا، سيرة حياة زعيم سياسي بات نادرا... المنتشر سير حياة شخصيات لا يمكن التنازع او الخلاف حولها، وتقدم عادة بصورة ايجابية... كيف ترين ذلك؟

ـ نعيش مرحلة من العمل في السينما بات المنتج فيها أكثر تحسّبا وخوفا. في الأمس كان الدافع تقديم أفلام تثير الإهتمام بمواضيعها وأساليبها الفنية. اليوم الفيلم الجيد يكفيه أن يقدّم حالة تثير رغبة اكبر عدد من المشاهدين. أنا لست ضد ذلك، لكن السينما لم تعد ما كانت عليه سابقا.

* هناك أفلام مثلتها أنت، لنقل «ايزادورا»، «ماري ملكة الاسكتلنديين»، «جوليا» لا يمكن تصوّر امكانية انتاجها اليوم.

ـ حتى وإن انتجت اليوم فالمعادلة مختلفة. كان هناك مخرجون يتمتعون بحرية التعبير الفنية كاملة. اليوم الشروط تكبّل هذه الحرية.

* هذا الفيلم الأخير «العاصفة المتجمعة» من إنتاج محطة تلفزيونية أميركية، وسبق لك أن تعاملت مع محطات تلفزيونية بريطانية وأميركية... أين تكمن الفوارق؟

ـ فقط مؤخرا حدث هناك تغيير كبير في العمل التلفزيوني البريطاني. لقد وقعت أحداث مؤسفة في صناعة الفيلم التلفزيوني من بينها توقف قسم السينما في «القناة الرابعة» الذي كما تعلم وقف وراء العديد من الأعمال السينمائية الجيدة. لكني لست خبيرة في هذا النوع من الاسئلة. كل ما استطيع قوله أنني كنت سعيدة أن البي بي سي 2 ومحطة HBO الأميركية تعاونتا في سبيل إطلاق هذا العمل. وحسب علمي، ولا تأخذ كلامي على نحو الواثق، أن هذا الفيلم لم يكن ليتم لولا اندفاع البي بي سي 2 وايمانها به.

* لا للسياسة

* ما ينقلنا الى داخل هذه «العاصفة»... كثير من الأفلام دارت حول الحرب العالمية الثانية، على الوجهين، الحربي والسياسي، لكن هناك حروبا كثيرة تقع اليوم وتتخذ أشكالا مختلفة بدءا من هجوم الحادي عشر من سبتمبر الى الحرب في أفغانستان والصراع في الشرق الأوسط.... ماذا يمكن لنا في رأيك القيام به؟

ـ آمل أن تسمح لي عدم الدخول مجال التعبير عن آرائي السياسية. لكن بالتأكيد أؤمن بأن دراسة الأحداث التاريخية والاجتماعية والتطوّرات السياسية في فترة تشرشل التي بدأت بمولده سنة 1874 وامتدت لتشمل اشتراكه في حرب جنوب افريقيا (حين كان في الثانية عشرة من العمر) ولاحقا في السودان ثم اشتراكه في الحرب العالمية الأولى، مفيدة في هذا الشأن... بالنظر الى أحداث اليوم المريعة التي ذكرت أنت منها واحدا او اثنين، أجد ان النظر الى التاريخ مساعد جدا. جزئيا لأن الكثير مما يحدث اليوم له جذوره في ذلك الوقت (وجزئيا) لأنه حين تقرأ عن تشرشل تدرك اي نوع من القادة كان.

* مؤخرا ظهرت مع ابنتك جولي رتشاردسون في مسرحية «مروحة اللادي ونرمير»... أعتقد أن هذه المشاركة العائلية بينكما كانت الأولى...لماذا كل هذا الانتظار؟

ـ لأنه لأجل أن تمثل مع أفراد عائلتك عليك أن تشعر بأنك تريد فعلا لعب هذه الشخصية، وأن تمثيلك للمسرحية التي يمثل فيها فرد آخر من العائلة هو مطلبك الداخلي وليس فقط فرصة للقاء مسرحي بينكما. وهناك شرط آخر: عليك أن تقتنع بأن هذا الفرد من العائلة سيمنح الدور إداء لا يستطيع ممثل مُتاح آخر توفيره. لكل هذه الأسباب لم أظهر مع ابنتي من قبل في مسرحية واحدة.

* هل العمل معا معضلة كونكما على ارتباط عائلي وثيق؟

ـ طبعا. انه من الصعب جدا أن تكون فردا من العائلة وتقوم بتمثيل مسرحية مع فرد آخر، خصوصا اذا ما كان فردا قريبا اليك مثل الابنة او الابن. السبب هو أن كل منكما يعلم الآخر من الداخل وينتقد الآخر أكثر. لديك مستوى عال وثقة كبيرة ولا تريد النيل منهما مهما كان السبب.

* هل أنت معجبة بأعمال الكاتب اوسكار وايلد كون «مروحة اللادي ونرمير» من أعماله؟

ـ كثيرا وسأخبرك حكاية ستعجبك: اعتقدت أن أحدا لن يستطيع أن يلعب شخصية اللادي ونرمير كما تستطيع جولي، لكن ترشيحها للدور لم تكن فكرتي بل فكرة المخرج الذي أثاره مجرد التفكير بذلك. اما أنا فكنت خائفة لأن التحدي أعلى اذا ما صعد فرد من أفراد عائلتك الى المسرح وواجهك فوقها. هذه كانت خشيتي... علينا أن نتواجه فوق الخشبة لأربع او خمسة أشهر... هذه مدة زمنية طويلة قد ترفع او تخفض أحدنا او كلانا.

* ماذا كانت النتيجة في نظرك؟

ـ لقد استفدنا جدا من التجربة. كل رأى في الآخر جوانب لم يرها من قبل.

* لعبت دور زوجة اوسكار وايلد في «وايلد»... هل كان ذلك بسبب إعجابك بالكاتب وأعماله؟

ـ الى حد كبير نعم. لكن السيناريو كان العامل الأساسي.

* كيف تفسرين مواصلتك العمل السينمائي طوال هذه السنوات؟ اعتقد أنني أتحدث عن أن ممثلات أخريات من جيلك تعرّضن الى الإنزواء حتى من دون مواقف سياسية حادة.

ـ أعتقد أن هذا ما يثبت أن الإداء اذا ما كان جيّدا يفرض نفسه... لا أدري تماما كيف أجيب عن هذا السؤال. لقد أتيحت لي فرص العمل من دون توقف. لا أقول أن كل أعمالي كانت على درجة متساوية، لكني حاولت اختيار أفضل ما أستطيع.

* حتى تلك الأدوار التي ظهرت فيها ظهورا محدودا... كثيرا ما كنت أفضل ما في الفيلم. أذكر مثلا «حاسة سميلا للثلج»... ذلك الظهور في مشهدين فقط.

ـ شكرا

* في أفلام أخرى شاركت جهدا جماعيا. شون بن أخبرني أنه رغب في العمل معك كثيرا لذلك تقدم منك بطلب تمثيل «العهد» مع جاك نيكولسون.

ـ لا تضع في بالك كممثل كل هذه الأمور. شخصيا أكترث فقط لما أمامي وعلي أن أقتنع بأنني أريد هذا الدور لأسباب لا علاقة لها برغبتي العمل لأجل العمل. ليست هناك الكثير من الأدوار المكتوبة بعمق، لكن هناك الكثير من الأدوار التي يمكن تأديتها بعمق... ربما هذا هو الجواب على سؤالك السابق حول استمراري كل هذه السنين