السينما ضد الحرب وأكثر... بوش الأب وبوش الابن والأميركي المغضوب عليه

محمد رضا

TT

في الظاهر، لا يعدو «نادي الامبراطور»، الفيلم الجديد للممثل كيفن كلاين، سوى دراما مرحة تدور معظم أحداثها في أكاديمية للأولاد. جو قريب من فيلم بيتر وير «نادي الشعراء الموتى» الذي قام ببطولته روبن ويليامز قبل نحو عشر سنوات. لكن اذا ما جمع المشاهد بعض الخيوط الفالتة هاله أن يستشف من العمل ملامح الفترة السياسية الحالية. بتحديد أكثر ستطالعه شخصيتان متكاملتان واحدة ترمز لجورج بوش الأب، والثانية لجورج بوش الابن. وكلاهما من موقع غير ودي.

قد لا تعطي الأفلام المنتجة في هوليوود ما يبحث عنه البعض من دلالات سياسية محددة. ليس في هذه الأيام. حرب فييتنام مرت وانتهت وحفلت بالأفلام ذات الدلالات السياسية. حرب الخليج الأولى مرت ايضا ولو كانت هوليوود مهتمة بها لأنتجت عنها أعمالا أكثر مما انتجته حولها من أفلام قليلة. والآن والحرب الجديدة على الأبواب لا يُنتظر أن تنبري هوليوود للتعليق على ما سيحدث او لمعارضته على الشاشة. يكفيها أن صوتت للديمقراطيين هذه المرة وبشدة معبرة عن الجو الليبرالي الذي تفضل العيش فيه أسوة بمعظم المدن والأنحاء الأميركية الأخرى.

لكن هذا لا يمنع من أن تحقق أفلاما في صدد التعبير عن رأيها في السياسة الأميركية والى حد أن بعض هذه الأفلام قد يوصم بأنه «معاد لأميركا». العبارة الخاوية التي لا معنى لها سوى رغبة البعض الحجر على الأفكار وتصوير اي نقد للسياسة الخارجية (او الداخلية كما الحال بالنسبة لأفلام أخرى) بأنه منطلق من موقف معاد.

«نادي الامبراطور» ليس سوى واحد من بضعة أفلام تستطيع أن تتكشف فيها ملامح نقدية مهمة وهو الأصعب بينها على هذا الصعيد. ليس فيه ما يدور حول البيت الأبيض ولا يتخلل ساعتيه ذكر أسماء باستثناء اسم الفيلسوف اليوناني هيراكليتوس، كما أن القصة ذاتها لا تتعامل مع اي وضع سياسي مباشر ولا تدور في أرجاء قاعدة عسكرية او مدرسة حربية او قريبا من البيت الأبيض.

أحداث «نادي الامبراطور» تمتد على مدى ثلاثين سنة مستوحاة من رواية وضعها ايثان كانن بعنوان «سارق القصر» ومفادها قصة البروفسور ويليام هندرد (كيفن كلاين) الذي يعود بذاكرته الى الوراء وتعود الكاميرا الى أيام تسلمه التدريس في كلية سانت بنيديكت للأولاد في عام 1976 ودرسه الأول هو العلاقة الأولى المرصودة بين الفيلم والسياسة الأميركية القائمة اليوم. فعن الفيلسوف اليوناني أن «القهر من دون اسهام لا قيمة له Conques Without Contribution is Withiut Signficance.

كل شيء يمر على نحو سلس وبلا مفاجآت تذكر باستثناء المشاهد المخصصة للتعريف بالشخصيات الأساسية وبعالم البروفسور الذي يقدر قيمة العلم والمعلومات ويسعى لتخريج تلامذة نبهاء. هذا الى أن يصطدم بالطالب المنضم حديثا واسمه سدجويك بل (اميل هيرش)، مراهق متقدم على باقي تلامذة الصف بثرائه ونسبه، فهو ابن عضو في الكونغرس الأميركي (هاريس يولين). سدجويك لديه تفسيره الخاص لكل شخصية أدبية يمر بها معلمه، لكنه في الأساس شاب متباه بمركزه ومثير للشغب في كل مناسبة ممكنة. هذا ما يدفع البروفسور هندرد للقاء السيناتور حاملا الشكوى المرة اليه. لكن ذلك، اذ يحذره من التعرض لابنه بأي نقد او للتأثير عليه بأي وسيلة، يكشف عن أن الطبائع التي يتحلى بها الابن موجودة في أبيه السياسي المحنك الذي يعكس مركزه اليميني على الساحة.

حبكة الفيلم بعد ذلك تدور في المسابقة التي اجرتها الأكاديمية بين أنبغ الطلاب، وكيف ضعف هندرد أمام نفسه فسمح لسدجويك بأن يكون أحد الثلاثة النهائيين في المسابقة، مستبعدا شابا آخر هو أحق بالمكان. ومع أن مساعدة الأستاذ لذلك الطالب الأرعن وقفت عند حد اشراكه في الساق الأخيرة من المسابقة المعلوماتية ولم تشمل منحه جائزة الفوز بالمركز الأول، الا أن الاستاذ حمل في باله الغلطة التي ارتكبها بدافع محاولة منح الشاب ما يفتخر به فعلا.

هذا ما يوصلنا الى هندرد بعد ثلاثين سنة، وها هو سدجويك قد كبر وتزوج وصار لديه قصره الخاص. في أحد الأيام يتسلم هندرد من سدجويك الدعوة للقيام بمسابقة جديدة تضم الطلاب الثلاثة الذين تنافسوا قبل ثلاثين سنة. سدجويك يرغب في الفوز هذه المرة بالمركز الأول ومحو ما يعتبره عارا شديدا. الأيام لم تعلمه شيئا، وكرم هندرد اندثر الا من ذلك الشعور بالألم في الذكرى والضمير. اذ تنطلق المسابقة وسط حفلة تضم معظم طلاب الأمس وزوجاتهم في قصر ابن السيناتور. يفرح هندرد بالاجابات الأدبية والتاريخية الصحيحة التي يتولاها سدجويك، لكنه ـ وفي المرحلة الأخيرة ـ يكتشف أن سدجويك يغش. لقد استأجر خدمات رجل يقف عند نهاية القاعة وفي يديه مرجع كبير يفتحه أمام كل سؤال ويلقن سدجويك الجواب عبر السماعة المخفية في أذنه. واذ يدرك هندرد ما يدور «يُلغم» سؤاله التالي فيتلعثم سدجويك ويخسر السباق وينتقم هندرد من ضعفه أمام طالبه قبل ثلاثين سنة.

في طيّات هذه الدراما المرحة والجميلة تطالعنا خطوطا ملونة تبدو كما لو كانت مقتبسة من الأجواء الثقافية والسياسية السائدة. بكل تأكيد، هندرد رجل أدب وأخلاق ومبادئ يحترم فيها الجميع (والفائز بالمسابقة مرتين هو طالبه الهندي ديباك ـ كما يقوم به ريشي ميتا)، لكن سدجويك مقدم على أنه ابن السياسي اليميني الذي تحول بدوره الى السياسة والذي لا يستطيع أن يغفر للآخرين اخطاءه هو. لقد نشأ في البيئة السياسة التي علمته خصالا أنانية ومفهوم قيادة ليس مبنيا على الثقافة بل على محاولة شرائها. والده عصامي بنى نفسه، لكن سدجويك «سرق القصر» (كما العنوان الأساسي للرواية والتي كانت ايضا العنوان الرئيسي للفيلم).

وعن رواية أخرى، هذه المرة للأديب غراهام غرين، ينقل الينا المخرج (الاسترالي الأصل) فيليب نويس أحداث فيلم «الأميركي الهادئ». الرواية كتبها غرين في الخمسينات (نشرت أول مرة سنة 1955). في عام 1995 قرأها المخرج وفكر في تحقيقها فيلما جديدا. وحسب قوله: «لم أكن أعلم أنها سبق وان تحولت الى فيلم سينمائي، ولم أشاهد ذلك الفيلم الا بعد سنوات عديدة».

الفيلم المذكور هو «الأميركي الهادئ» لجوزف مانكوفيتز بطولة ايدي مورفي (الشاب الذي كان عاد من الحرب العالمية الثانية مثقلا بنياشين القتل) مع البريطاني مايكل ردغريف والايطالية جورجيا مول. لا الرواية ولا نسخة مانكوفيتز تحتويان على شخصية ايطالية، لكن جورجيا مول لعبت دور الفييتنامية فيونغ التي يقع في حبها كل من الأميركي والبريطاني. هذا ليس التغيير الوحيد الذي أصاب الفيلم السابق حين تم اقتباسه عن رواية غرين المفعمة بالمشاعر العاطفية والمطعّمة ايضا بالمواقف الآثرة عن المرحلة التي تقع فيها الأحداث (مرحلة ما قبل الحرب الفييتنامية ـ الأميركية)، بل التغيير الأساسي انصب في هيئة استبعاد كل ما هو معاد للشخصية الأميركية وتحويل الأحداث الى مسار القصة العاطفية التي تقع بين الثلاثي المذكور. فالبريطاني مراسل صحافي متقدم في السن على علاقة مع فييتنامية شابة. فجأة يصل ذلك «الأميركي الهادئ» فيجرف الفتاة اليه، ليفيق البريطاني على وضع قد يدفعه الى الجريمة.

النسخة الجديدة لا تزال تدور في رحى سنوات ما قبل الخطوة العسكرية الأولى في تلك البلاد. وسريعا ما يتمكن فيليب نويس من وضع المكان بأسره تحت المجهر. البريطاني توماس (مايكل كين) لا يريد ترك فييتنام كما طلبت منه صحيفته كونه مرتبطا عاطفيا بالفتاة فيونغ التي تريد الزواج منه اذا ما استطاع طلاق زوجته. الى حياتهما تلك يدخل الأميركي ألدن بايل (براندون فريزر) الذي يدعي أنه مسؤول وحدة طبية لكنه في الواقع واحد من عناصر المخابرات الأميركية التي تحاول ايجاد ساحة عمل مناسبة بعد الفراغ الغربي الذي تمثل بهزيمة فرنسا وخروجها من فييتنام، وفي مواجهة المد الشيوعي القادم من الشمال.

الخاص والعام يتداخلان جيدا في هذا الفيلم. «الأميركي الهادئ» عن المناورات العاطفية التي تقع بين الثلاثة (ولو أن معظمها يتم من وجهة نظر البريطاني لب الموضوع ومحور أحداثه) في الواجهة، وعن الدور الأميركي الخاص في تداعي الوضع السياسي والاجتماعي للفييتناميين وما أدى اليه لاحقا من دخول اميركا الحرب ضد فييتنام الشمالية ومحاربة الفييتكونغ على الأرض الفييتنامية الجنوبية حربا فتكت بأرواح ومستقبل مئات الألوف من الأميركيين والفييتناميين على حد سواء.

«الأميركي الهادئ» ليس بحاجة الى التوقف طويلا عند المشاهد التي تعكس النقد الواضح للسياسة الأميركية الخارجية. فقط يكفي متابعة المشاهد ضمن تسلسلها داخل الدراما ككل فتخرج بانطباع مفاده أن السياسة الأميركية الخارجية لم تكن يوما قائمة على تجنب الحروب سواء قامت بها بنفسها او دفعت دولا، او حكومات أخرى للقيام بها.

كل الصحف الأميركية التي كتبت عن هذا الفيلم للآن، ذكرت أن الفيلم استبعد من العرض بعد احداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001 وبسببها. البعض كتب عن أن الفيلم احتل مكانه على الرف لأكثر من عام بسبب تلك الاحداث اذ «لم يجرأ أحد على عرض فيلم معاد لأميركا في تلك الأيام والى اليوم» كما كتبت احداها. لكن الحقيقة ليست كذلك والمخرج يقول في حديث خاص «كل ما في الأمر هو أن الفيلم صار جاهزا للعرض في مايو (أيار) هذا العام، وطبيعيا أنه ليس فيلما تجاريا يمكن اطلاقه في موسم الصيف بل عليه الانتظار الى مثل هذه الأيام. هذا هو التأخر الوحيد الذي أصابه ونحن الذين خططنا له».

رغم وضعه السياسي الانتقادي فان «الأميركي الهادئ» دراما انسانية كبيرة في الدرجة الأولى ومايكل كين يقدم واحدا من أفضل اداءاته واداء براندون فريزر لا يقل عن مستوى أداء الممثل البريطاني كثيرا.

انه أقل حدة من «باولينغ فور كولومباين» لمايكل مور. الفيلم التسجيلي الطويل الثالث لمخرج مشاكس يصطاد المواضيع الساخنة ويحسن التعبير عنها مغيرا من واجهة الأفلام التسجيلية او غير الروائية اذ يجعلها قريبة من «الريبورتاج» الصحافي الذي من شأنه جذب الناس على نحو مباشر ومن دون أن يكون الفيلم متخصصا بجمهور الفيلم التسجيلي وحده.

موضوع الفيلم هو التسلح المتاح للأميركيين ونسبة ارتفاع العنف في المدن الأميركية صغيرة وكبيرة. العنوان بذاته مأخوذ من اسم البلدة الصغيرة التي وقعت فيها حادثة قيام طالبين شابين بفتح النار على رفاق الكلية. مور يريد أن يعرف ما هي جذور العنف الأميركي ولماذا السلاح منتشر بين الناس على النحو الذي لا مثيل له في اي مكان آخر؟ وهو وان بدا طوال الفيلم باحثا عن جواب، الا أنه يضع أصبعه على أكثر من ثغرة في الحياة الاجتماعية والسياسية الأميركية ويفتح صناديق طماطم فاسدة تشي بما لا يود اليمين الأميركي سماعه او رؤيته. رحلته الباحثة عن جواب تضعه على محطات عديدة من بينها السياسة الخارجية الأميركية وكيف أنها تغذي «الدكتاتوريين» على حساب شعوبهم حتى اذا ما عاد من الممكن او المرغوب الدفاع عنهم ناوأتهم واعتبرتهم أعداء. ومور لا يكتفي بذكر المثال الحاضر في البال الأميركي على الأقل، صدّام حسين، بل يأتي على ذكر شاه ايران السابق والخميني كما دكتاتوريي الدول اللاتينية الأميركية بأسرهم.

يبدأ الفيلم باستجابة مور، الذي يظهر في كل مشهد تقريبا، لاعلان من مصرف في متشيغان: «افتح حسابا الآن وخد بندقية هدية». بداية الفيلم الدالة تضع المشاهد على الطريق الذي سيخطه مور في مسعاه لكشف هوية العنف في اميركا. اسئلته قد تبدو ساذجة، لكنه حال معظم الطروحات العميقة اذ تستند الى مبادئ عامة بسيطة وبعيدة عن المبررات المساقة.

بعد ذلك ينطلق في محاولة سبر غور الشخصية الأميركية البيضاء (وضع مور كتابا في العام الماضي أسماه «الرجال البيض الأغبياء») وجنوحها الى العنف والخط اليميني من السياسة وعلاقة هذين الجانبين بالمذبحة التي وقعت في كلية كولمباين في بلدة ليتلتون في ولاية كولورادو بتاريخ 20/4/.1999 ينتقل الى تورنتو ويسأل جيران أميركا لماذا لا توجد نسبة جريمة عالية في كندا. لماذا لا يوجد قتل عشوائي. لماذا لا يزال الناس ينامون وأبوابهم غير موصدة. أحدهم يشير الى الحدود القريبة من الشمال الشرقي للولايات المتحدة ويقول أنه اميركي يجد الطمأنينة في كندا لذلك يأتي اليها.

لكن ما هو أهم يأتي ذكره بعد قليل. ففي جردة سريعة يستعرض مور الوجه العنيف للسياسة الأميركية الخارجية محاولا، وربما بنجاح، الايحاء بوجود علاقة بين حب الأميركيين للسلاح واعتمادهم عليه في حل مواقفهم العالمية اما بدخول حروب مباشرة او بتوجيه الآخرين لدخول حروب حتى ولو كانت ضد شعوبهم.

ايضا، وقبل نهاية الفيلم بنحو ربع ساعة، يلتقي مور بالممثل شارلتون هستون، رئيس جمعية NRA، الجمعية الوطنية للسلاح التي تعارض اي قيد لتداول السلاح وبيعه للأفراد. هستون، الممثل الذي لعب أدوارا تاريخية في ملاحم دينية عدّة والذي ـ كرونالد ريغان وجون واين ـ كان دوما من أعمدة اليمين الأميركي في هوليوود ـ يدافع عن سياسته بالقول ان حرية حمل السلاح ضمنها الدستور، لكنه لا ينجح في الرد على اتهامه بقصر النظر عندما قام برئاسة حملة ترويجية لحمل السلاح في كولومبياين ذاتها بعد أقل من أسبوعين على المذبحة.

يتركك «باولينغ فوق كولومباين» مشدودا أمام حالة غير مبررة من الرعونة. انها كما لو كانت رصاصا طائشا، ومور يصل الى نقد ما يريد سواء حصل على الأجوبة التي ينطلق للبحث عنها ام لم يحصل.