عبد الرحمن الباشا: ليس مطلوبا أن يكون كل مؤلف بيتهوفن زمانه

العازف اللبناني العالمي لـ«الشرق الأوسط» : فيروز القديمة أقرب .. وسيلين ديون تؤدي أعمالا تافهة

TT

حظي عازف البيانو اللبناني العالمي، عبد الرحمن الباشا، بفرصة عظيمة لتنمية موهبته الموسيقية وشخصيته الفنية، كونه ابن الموسيقار توفيق الباشا والمطربة وداد، وهما من كبار الفنانين، كما قال لـ«الشرق الاوسط» مستدركاً: «لكن الموهبة ليست وراثية، والا يفترض ان يصبح اولاد كل موسيقي كبير موسيقيين كبارا. والامر ليس حاصلاً. فمن يتربى في بيت موسيقي ينشأ على تذوق الموسيقى، لكنه لن يصبح محترفاً وبارعاً ما لم يتمتع بالموهبة».

* المعروف ان الموسيقى الغربية لا تطرب كالموسيقى الشرقية، حتى انه لا يوجد تفسير لكلمة طرب في اللغة الاجنبية، كيف اثرت هذه الموسيقى عليك وانت الطالع من بيت متعمق في التراث الموسيقي الشرقي؟

ـ في الموسيقى الغربية يمكن ان نصل الى مركز الاحساس بالطرب الشرقي، الذي يشعر من خلاله الانسان بجمال ما يسمع ويؤخذ الى درجة النشوة. الامر يرتبط بالعازف، فمن يتمتع بمهارة تقنية عالية يبهر الجمهور لكنه لا يجذبه الى عالم خيالي تصنعه الموسيقى. اما الفنان الذي يجمع الى المهارة الابداع فهو يفتح من خلال عزفه ابواب ما وراء الواقع. ومثل هذا العازف يصل الى المرتبة الاولى ويصبح مشهوراً وعالمياً.

* ماذا اعطت ثقافتك الشرقية لعزفك الموسيقى الكلاسيكية؟

ـ تمكنت من خلال احساسي الشرقي ان اوسع حدود عزفي وأسكب فيه ثقافتي وتاريخي وعاطفتي، لان العاطفة لدينا كشرقيين تغلب العقل احياناً لكنها في ميدان الموسيقى ملكة لا بأس بها اذا اخذت حجمها وعاطفتي موجودة في ادائي.

* الموسيقى الكلاسيكية تقتصر على النخبة والمثقفين، ولا يقبل عليها عامة الشعب، هل يرضيك ان تصل الى العالمية ولا تتواصل مع الجمهور العريض؟

ـ هذا السؤال في مكانه، لكن الفلاسفة المفكرين، الذين وصفوا نظريات الحضارة والتطور، كانت افكارهم تقتصر على النخبة، ومع ذلك غيرت العالم.

* هنا يمكن الاستدراك بأن هذه الافكار كانت قابلة للتطبيق والتفاعل مع حاجات الناس، هل الامر مع الموسيقى مختلف؟

ـ ربما يجب ان نتحدث عن الاجتهاد، اذ لا يكفي ان نقول ان الموسيقى الكلاسيكية معقدة وغير رائجة لنبتعد عنها. فهي معلم من معالم الجمال الانساني، ربما يجب ان يفرض الانسان على نفسه ان يذهب مع الموسيقى الى ابعد حد ممكن. لانه اذا بقي في مكانه سيفوته التعرف على روعة هذا العالم اللامحدود. وسيكون خاسراً اذا لم يلحق بهذه الموسيقى ويرافقها. وهنا يقع الذنب على المبادئ التربوية الموجودة في المجتمعات، لأن امكانية تطويرها ليست مستحيلة.

* هل تشعر انك معزول داخل عالمك الموسيقي؟

ـ اشعر اني صلة وصل بين الجمهور والمؤلف. لكن عقلي مسكون بالموسيقى فالعزف ليس مهنة عادية بل هو رسالة يختارها الفنان بارادته.

* الى اي حد يصبح العازف هو مؤلف اللحن الذي يعزفه، وليس فقط مؤدياً له؟

ـ طبعاً هذه نقطة حساسة جداً. وهي تعترض العازف الذي يمسك بين يديه نصاً موسيقياً معقداً بعض الاحيان. يفترض ان يقدمه الى الجمهور وكأنه يؤلفه امامهم. هنا تبرز اهمية احترام النص وقوة العازف وثقته بنفسه، ليتمكن من اعادة تكوين النص وادائه مع المحافظة على الاعتدال والتوازن الصعب الذي يجب ان يتوصل اليه. انا التزم كثيراً النص الموسيقي واطبقه بحذافيره احتراماً لعبقرية المؤلف. لكني اتحاشى ان انقله نقلاً، بل اعيشه وكأنه لغتي الخاصة وسيرتي الشخصية.

* الم تراودك اصابعك بالانحراف خلف احاسيسك لترجمة مفهومك الخاص للنص الموسيقي؟

ـ لا اسمح لنفسي بذلك. لكني لا اكرر ذاتي وانا اعزف، اتغذى بالالهام الذي يكون ساطعاً بعض الاحيان ليبهت احياناً اخرى لاسباب عدة منها الشروط التقنية الموسيقية او نوعية الجمهور.

* تبدو هادئاً وانت تعزف كأنك تحمي نفسك من الجمهور، فكيف يؤثر عليك؟

ـ خلال العزف افتح اذني كثيراً فلا اعود وحدي مع الموسيقى وانما مع كل ما يدور حولي، اما هدوئي فهو اسلوب فني، حتى ان بعض المستمعين في الغرب يحسبون وانا اعزف اني بارد، لانهم تعودوا مشهد عازف يظهر انفعاله مع الموسيقى بالتمايل. انا اعتبر ان الحركة مع العزف هي موضة، لان النظر اهم من السمع هذه الايام. لكني ارفضها واسعى الى حفظ قيمة الموسيقى الطالعة من بين اصابعي، فما يهمني هو ما يبقى بعد غياب الصورة.

* هل تؤلف موسيقى خاصة بك؟

ـ اؤلف بشكل حر ولست مرتبطاً بمدرسة فنية محددة.

* هل انتهى عهد تأليف الموسيقى الكلاسيكية التي انتجها عمالقة هذا الفن؟

ـ الموهبة ليست معدومة. لا بد ان هناك من يتمتع بها. لكني اقول ومن دون تردد انه لا يوجد حالياً وفي اي مكان من العالم مؤلفون من وزن شوبان او بيتهوفن او موزارت. قد توجد موهبة تحتاج الى وقت للنمو. انما العلة تكمن في التيارات الحالية المرتبطة بتاريخ الموسيقى. الفن فوق التاريخ ويجب ان يستقل عنه. والتأليف الكلاسيكي الحالي ينجذب الى التيار الذي يقيد نفسه بالتاريخ يؤلف بأسلوب موزارت وبيتهوفن، مما يجعل هذا التأليف تافهاً بالمقارنة مع الاعمال الاصلية. لذا افضل ألا يحد الفنان من طاقته وألا يلتزم اتجاهاً معيناً، بل يجعل طاقته تنفس بعفوية كما يشعر هو، لا كما ينتظر منه الآخرون. وليس مطلوباً ان يكون كل مؤلف بيتهوفن زمانه.

* الا يمكن القول ان بيئتنا الحالية لا تملك المقومات اللازمة لانتاج روائع كلاسيكية؟

ـ لا اوافق. إذا قرأنا ما كتبه الكبار عن بيئتهم التي انجزوا اعمالهم وهم ينتمون اليها لفهمنا ان العلة ليست في البيئة.

* الا تريد ان تكون من اعلام هذه المرحلة، ام تخاف ان تغامر برصيدك العالمي؟

ـ لا اخاف، ولكن مشروع انتاج اسطوانة لموسيقى كلاسيكية معروفة يجد من يموله، اما التأليف الموسيقي الكلاسيكي العربي، فهذا عمل لا يجد شركة انتاج تموله، رغم ان تكاليف الاسطوانة لا تزيد على 15 الف دولار، وانا اعرف ان من لديه الاستعداد لانتاج اسطوانة من اعمال عبد الرحمن الباشا سيسترد تكاليفه، لكن اين هو؟

* لكن انتاج فيديو كليب من صرعات هذه الايام يكلف اكثر من 15 الف دولار بكثير؟

ـ اكيد، وعندما أنتقد هذا الواقع، يتهمونني بأني اعزف موسيقى الغرب واترك الموسيقى الشرقية، فأرد عليهم، بأنهم يأخذون اسوأ انواع الموسيقى الغربية ويروجوها ولا يفسحون المجال للموسيقى الراقية التي صارت تراثاً انسانياً عالمياً للوصول الى المستمعين. هنا التناقض الذي يقودنا الى لعبة السوق. التأليف والتسجيل يحتاجان الى امكانات مادية لا اقدر عليها لوحدي. فنحن نعيش في واقع ضد نفسه، ومن لا يتعرف الى الموسيقى الجيدة يضر نفسه.

* هل تفضل العزف بمفردك ام ضمن فريق؟

ـ احب كل قوالب العزف، اذا كان العمل يناسبني، لكن اقول ان التنفيذ اصعب مع شركاء ليسوا على مستوى عال او على انسجام او حوار او لا تجمعهم كيمياء ما. يفترض توفر ذلك لتتكامل عملية العزف. وبالتأكيد حين اعزف منفرداً مع آلة جيدة وجمهور يملك فن الاستماع اكون مسؤولاً عن نجاح ما اقدمه.

* هل تخاف على اصابعك؟

ـ طبعاً واحافظ عليها، احاول عدم القيام بأي حركة فيها عنف وأسعى الى امتلاك اعلى نسبة من الهدوء، مع اني لست هادئاً في داخلي، لكني اكتسبت صفاتي بالترويض واحاول الابتعاد عن الضجيج، ولذا اعيش في الريف، وأستمع الى سكون الطبيعة وما تحمله من اصوات.

* هل تستمع الى الاغاني الجديدة؟

ـ قليل جداً ربما اذا كان اللحن جميلاً والامر نادر. يلفتني صوت سلين ديون لكنها تؤدي اعمالاً تافهة. اما في العالم العربي فأتوقف عند الطاقة الصوتية لصابر الرباعي. يعجبني صوته كثيراً لديه قدرات طرب كبيرة.

* كيف ترى فيروز الجديدة مع زياد الرحباني؟

ـ انا متعلق جداً بأغاني فيروز القديمة، ولذا لن يأتي حكمي مجرداً. احترم زياد فهو ليس موسيقياً عادياً، لديه قدرة هائلة. على كلٍ علاقة فيروز بزياد محكومة بالامومة وربما حاولت ان تجدد عطاءها من خلال اعمالها الجديدة. لكني اجد ان فيروز الستينات اقرب الي، لاسيما مع اغنية «فايق وللا ناسي» التي بلغت فيها مستواها الاعلى.

* هل تستمع الى اغنيات والدتك الفنانة وداد؟

ـ والدتي فنانة لها مدرسة خاصة في الغناء وطاقاتها ساشعة ولم تستغل كما يجب، وانا حالياً بصدد العمل على اصدار اسطوانة لأهم اغانيها اشرف عليها مع شركة الانتاج في باريس.

* محطات العزف مع عبد الرحمن الباشا

* ولد عبد الرحمن الباشا في 22 اكتوبر (تشرين الاول) 1958، وتأثر بالعازف الروماني الراحل دينو ليباني والايطالي مورنيسو بوليني.

العازف التشيلي كلود بواراو سمع الطفل عبد الرحمن الباشا وهو يعزف وابدى اعجابه بقدرته على احتراف العزف.

ـ عام 1975 تقدم الى مباراة «مرغريت لونغ» العالمية للبيانو في باريس ونال المركز السادس، الامر الذي اثار النقاد في الصحف الفرنسية واعتبروا انه نال لدى الجمهور المركز الاول.

ـ عام 1978 فاز بالجائزة الاولى لمباراة «الملكة اليزابيت» العالمية في بلجيكا وهذه الجائزة فرضت عبد الرحمن الباشا كمحترف في اوساط موسيقى العزف الكلاسيكي وحددت خطواته المستقبلية.

ـ عام 1988 اعتذر العازف التشيلي العالمي كلوديو اراو عن عدم الاشتراك في امسيتين لاوركسترا «فيل هارمونيك» في برلين لاسباب صحية، فتم الاتصال بعبد الرحمن الباشا قبل اربعة ايام من موعد الامسيتين وعرض عليه ان يأخذ محمل اراو، فوافق وعزف كونشرتو بيتهوفن ليلتين متتاليتين وسمعتها عبر الاذاعات الاوروبية بأكملها، مما شكل محطة مهمة في حياة الباشا، اذ قال لنفسه ان العازف الذي تمكن ولو لمرة واحدة من العزف مع اوركسترا برلين لن ينساه احد.