الكردية تارا الجاف تحلق في سماء لندن بقيثارة سومر

TT

جاء في تعليق لم يخل من الطرافة كتبه الاستاذ خالد القشطيني بعد حضوره حفلة تارا الجاف الغنائية ـ الموسيقية «كلما ذهبت الى ديوان الكوفة بلندن، ورأيت القاعة محاطة بالواقفين، ادرك عندئذ انني امام حدث مهم من برامج هذا النادي الجليل.

مررت بهذه التجربة مساء الاربعاء الماضي، حيث كان موعد سماع الفنانة الموسيقية الكردية البارعة تارا الجاف، اعتقد ان بعض الحاضرين اضطر للوقوف في الحمام ليحصل على موطئ لقدميه!» في تلك الامسية الرقيقة، والمزدحمة قدمت تارا بمصاحبة قيثارتها عددا من الاغاني، وعلقت على كل اغنية منها بالانجليزية، مصدرها، معناها، موقعها الى باقي التفاصيل المفيدة لمستمعي اغانيها من العرب، والكرد، والعجم.

وفي اغانيها الناعمة تلك، وكذلك في موسيقاها عادت تارا، وبقوة من مدن اغترابها الطويل الى ادق الجذور في شجرة قومها.

عادت الى ترانيم عشيرة الجاف ـ عشيرتها ـ لتلهج بأغاني رجالها في مجالسهم، اغاني رجال مناطق «هورامان» في مدن حلبجة، وجوانرو، باوة، تويلة على جانبي الحدود بين العراق وايران.

في غنائها، وموسيقاها عادت تارا من بغداد، حيث ولدت عام 1958 من ابوين كرديين، ومن العاصمة الصينية بكين التي رحلت اليها بمعية والدها الدبلوماسي، وهي لا تزال في الشهر السادس من عمرها.

عادت تارا من المغرب، ومن كابل بأفغانستان، عادت الى بغداد ثانية، وقد بلغت التاسعة من عمر اغترابها.

وهناك في بغداد درست الصغيرة تارا العزف على البيانو لعامين، وعندما بلغت التاسعة عشرة من عمرها رحلت الى لندن حيث اقامت، وحيث شغفت بآلات موسيقية اخرى كالماندولين، والجرانكو، والبزق.

وفي النهاية ايقظت القيثارة الايرلندية فيها حبها الاول لقيثارة سومر، فدرست اصولها وفصولها، وازداد عشقها لها. كانت تارا تبحث في مجاهل غربتها الطويلة عن نفسها في الموسيقى الكردية التي بدأت بعزفها على قيثارتها، تلك القيثارة التي شهدت انتقالات عديدة مثلها، فهي عرفت في مدينة اور السومرية قبل خمسة آلاف عام، وانتقلت الى نينوى، عاصمة الدولة الاشورية، وعبر اليونان عرفت القيثارة، وانتشرت في الغرب.

ولكي تفهم نفسها اكثر ـ كما قالت ذات مرة ـ اتجهت تارا الى دراسة اكاديمية لعلم النفس.

تقول تارا «عندما اعزف على القيثارة اشعر برنة الخشب تسري في عروقي، العناق متبادل بيننا».

ووفاء لهذا الحب تعامل قيثاراتها بمودة كبيرة، فلكل قيثارة رداؤها، وموقعها من القلب. هذا ما علمته من تارا مؤخرا، ففي امسية ليست ببعيدة رن جرس الهاتف في منزلي، رن صوت تارا: علي .. جوني! (Choni) (كيف حالك باللغة الكردية)، وبعد الاسئلة التقليدية المتبادلة عن الاحوال، والاخبار، وشؤون الموسيقى والرسم، وشجونهما سألتني عن رأيي في ان احيل احدى قيثاراتها الى العصر السومري، وذلك بتزويق جسدها الاخرس على شاكلة مثيلتها السومرية الناطقة شكلا ومضمونا! اقتراح تارا بتلوين خدود قيثارتها الايرلندية لجعلها تبدو، او تصبح بالاحرى القيثارة الرافدينية التي بدأت عشقها للموسيقى بمرآها في قاعات متحف الآثار القديمة ببغداد دفعني الى التفكير بمحاولتها لاعادة ربط ذهن مستمع موسيقاها وغنائها الكرديين بصريا الى اصل الآلة العريق، وموطنها ـ بلاد ما بين النهرين ـ موطن تارا الذي تشكل الاراضي الكردستانية جزءا غير يسير منه.

وجدت في محاولتها هذه تعبيرا عن رغبة دفينة فيها لتعويض اغترابها الطويل عن تلك الجذور، خاصة وان فرصة تارا في العيش في كردستان كانت معدومة كما رأينا.

وهي في ابحارها وغوصها في شعاب الجبال الموسيقية الغنية بجذورها الكردية اوغلت في رحلة البحث عن نفسها، فوجدته ينتظرها هناك في بيوت اهلها الجاف.