العام الذي كان: سنة سينمائية حلوة على الرغم من أيام مرّة

TT

لم يكن العام الآزف بالغروب شحيحا بالنسبة للأفلام الجيدة او التي تستدعي الاهتمام جماهيريا او نقديا. على العكس وفي المقام الأول، كانت هناك وفرة كبيرة من الأفلام الجيّدة عكستها العروض السينمائية في مختلف أنحاء العالم.... باستثناء بقعة هنا وبقعة هناك حيث منوال العمل اليومي لم يتضمّن الاصرار على النوعية.

بدأ عام 2002 بامتحان: هل تستطيع السينما الأوروبية الوقوف أمام السينما الأميركية ليس على صعيد نجاح أفلامها التجارية في عواصمها او في الخارج فقط، بل على صعيد السيطرة على مقدرات العمل والانتاج وفق معادلات هوليوود ذاتها. بكلمة موجزة: هل تستطيع السينما الأوروبية أن تتبلور كصناعة تجارية بالغة التأثير كتلك الأميركية؟ والجواب على هذا السؤال بدا في مطلع الأمر ايجابيا. رأس المال الأوروبي كان يتوغل نشطا في عضد السينما الأميركية خصوصا بعدما كانت فيفندي ابتاعت يونيفرسال وامبراطور النشر الألماني كيرش توخى ضخ المزيد من التمويل في هوليوود والقناة 4 البريطانية عرضت برنامجها للعام 2002 الذي تضمّن المزيد من التمويل في أفلام اميركية.

مع منتصف العام، بدا عجز هذه الجهات وطُويت صفحات مغامراتها في ربوع هوليوود بعد صفحات قليلة. في الحقيقة، كل من فيفندي وكيرش خسرا جبلا من المال في مغامرتهما، والقناة 4 أغلقت باب التمويل او هي تكاد. على ذلك، ونظرا لأن كلفة الأفلام باتت أكبر من قدرة شركات هوليوود على على القيام بمعظمها وحيدة، فان الحاجة الى التمويل المشترك ما زالت ماسة. وهذا التمويل المشترك بات عادة ما يأتي من قيام استديوهين كبيرين (لنقل يونيفرسال وفوكس او فوكس ودريمووركس الخ...) بتمويل مشروع مشترك. واحد من الاستديوهين يأخذ حقوق توزيعه اميركيا والآخر يأخذ حقوق توزيعه عالميا. كذلك، والأهم، أنه يأخذ أحيانا شكل انتاج اميركي ـ اوروبي مشترك، لكن على عكس محاولتي كيرش وفيفندي فان الادارة تبقى بيد الأميركيين بينما يقوم المساهمون الأوروبيون بتسديد الفاتورة المطلوبة التي تتراوح ما بين 40 في المائة و100 في المائة من كلفة الانتاج.

* شخصيات عالمية في هوليوود

* وفي عالم بات شديد التعقيد، فان العودة الى صنف الانتاجات الضخمة، الذي كان توقف قبل سنوات قليلة خوفا من ارتفاع الكلفة، عاد بغزارة. ليس فقط أن المفهوم الذي تبلور هذا العام يعتمد على ايجاد المشاريع ذات القوّة على الجذب عالميا مرة واحدة، بل أن البحث جار عن تلك الأعمال التي تتناول شخصيات ليست أميركية بالضرورة: «هانيبال» و«الاسكندر العظيم» هي من بين تلك التي بدأ العمل عليها هذه السنة وتصوّر في العام المقبل، وكلاهما عن أبطال غير أميركيين. كذلك فان أقوى أفلام العام الأربعة وهي على التوالي «سيد الخواتم» (الجزء الأول الذي انطلق للعروض في نهاية عام 2001) و«هاري بوتر وجوهرة الساحر» (انطلق ايضا في نهاية العام الماضي لكنه سجل معظم ايراداته العالمية هذا العام) و«مت في يوم آخر» (مغامرة جيمس بوند العشرين) و«عرسي اليوناني الضخم» كلها من بطولة شخصيات ليست اميركية. طبعا الممثلون في بعضها أميركيون، لكن «سيد الخواتم» الذي نشهد حاليا عروض الجزء الثاني منه تجاريا، يدور في عالم مضى مع شخصيات خيالية يمكن أن تكون قد عاشت في أي زمن وفي أي موقع. «هاري بوتر» (والجزء الثاني منه ايضا في العروض وسيبقى حتى مطلع العام المقبل) كُتب ونُفّذ كعمل بريطاني بممثليه وشخصياته وأماكن تصويره، وكذلك «مت في يوم آخر» للعميل البريطاني جيمس بوند. اما «عرسي اليوناني الضخم» فهو مثل النعجة السوداء: قصته تقع في أميركا وبطلته من أصل يوناني والشخصية التي تقوم بتمثيلها، كذلك معظم الشخصيات الأخرى المصاحبة، يونانية.

هذا الفيلم هو الوحيد الذي حقق في اميركا أكثر مما حققه في العالم. وكنه المفارقة أنه كلف خمسة ملايين دولار فقط (ونحو 15 مليوناً لترويجه) لكنه جلب للآن 270 مليون دولار معظمها من داخل السوق الأميركية (نحو 235 مليونا). هذا كله وهو لا يتحدث عن أميركيين بيض (بل يصفهم بأنهم مثل «التوست الناشف») بل عن الجالية اليونانية السعيدة في ربوع المدينة الأميركية.

* زيادة في الإيرادات

* بذلك كله، ازدادت في العام 2002 سمات الفيلم الأميركي كمشروع عالمي. الآن بعد عقد او عقدين من احكام سيطرة السينما الأميركية على التوزيع في الأسواق العالمية، باستثناء بعض الجيوب، أدرك الممولون في اوروبا أنه عوض محاربة هوليوود يستطيعون الانضمام اليها. لكن في غمار ذلك، وبسببه كما لأسباب أخرى، أصبح الرأس المال المستخدم قادرا على تذويب الحدود أكثر وأكثر بين ما هو اميركي وما هو غير أميركي، كما كان فعل بين الدول الأوروبية ذاتها ما جعل العديد من الأفلام تحمل عددا كبيرا من المساهمين المختلفين. فتجد الفيلم الأوروبي الناطق بالروسية من انتاج ايطالي ـ سويدي ـ فرنسي ـ الماني والفيلم الناطق بالصينية قد يكون من تمويل فرنسي أساسي مع مساهمات تلفزيونية من أسبانيا وايطاليا وصولا الى النروج.

في مقابل كل ذلك المد والنجاح، هناك حالات معتّمة كثيرة. معظم الانتاج الأميركي من الأفلام يسقط او يشارف على السقوط في مرحلة عروضه الأولى. سبعة من بين كل عشرة أفلام تخسر او تكاد تحقق توازنا بين ما أنفقته وبين ما عادت به من ايراد، هذا على الرغم من قفزة قدرها 25 في المائة من مجمل ايراد صالات السينما في اميركا زيادة عن مجملها في العام السابق. لكن الأفلام الثلاث التي تنجح كثيرا لكل شركة انتاج هي التي تكفل بقاءها قوّة أساسية في الميدان. هوليوود تحصي نجاحاتها وتعوّض بها اخفاقاتها. الدرس الوحيد الذي تحاول الخروج به هو أن لا تعيد الكرة اذا ما أخفق سيل من الأفلام مرتبط بنوعية معينة او بنجم محدد، لكن حتى هذا ليس أمرا مضمونا والا لما أخفقت العديد من انتاجاتها عاما بعد عام. ما يحدث هو ان النجاح المتأتي من القلة يذيب الخسارة الحاصلة من الكثرة. اضف الى ذلك أن عام 2002 هي السنة التي ارتفع فيها مجمل الايراد الى نحو 25 في المائة حسب أدق المصادر. هوليوود بذلك اخترقت أكثر من مفهوم بينها أنها لم تنتج أفلاما ناجحة كثيرة هذا العام، وأن السينما في انحدار، ومن ناحية أخرى ـ انه لا توجد أفلام تستحق المشاهدة.

* ظواهر في السينما العربية

* في الواقع، يتمنى المرء لو أن شيئا كالذي يحدث من حولنا يحدث معنا. سواء أكان هذا الشيء هو العمل المشترك بين الدول العربية، كحال الدول الأوروبية، او كانتاج أفلام تقدر على جذب الجمهور العربي على نحو جامع كما كان الحال عليه فيما مضى. لكن العام 2002 حفر في التاريخ عددا من الانتصارات والهزائم لو استعرضناها لتبلورت على النحو التالي:

سرقت السينما العربية الأضواء هذا العام عندما عرض مهرجان «كان» السينمائي الدولي سبعة أعمال من ست دول عربية هي فلسطين، سورية، لبنان، موريتانيا، تونس والجزائر. النقاد العرب معذورون اذا ما شاهدوا شمسا ساطعة في سماء هذه السينما فاعتقدوا أن الصيف بدأ، ذلك أن «كان» لم يشهد مثل هذه التظاهرة منذ سنوات طويلة. أكثر من ذلك، ارتفع اسم فلسطين لأول مرة عبر فيلمين رسميين هما «يد الهية» و«عرس رنا»، وانضمّت سورية الى قائمة الدول التي عُرضت لها أفلام على نحو رسمي في ذلك المهرجان وذلك بعرض فيلم أسامة محمد «صندوق الدنيا» في مجال الانتصارات ايضا. خروج «يد الهية» لايليا سليمان بجائزة لجنة التحكيم من «كان» وبجائزة «الاتحاد الدولي لنقاد السينما» وبذلك بدأ رحلة طويلة من جني ثمار عمل فني مبدع لمخرج ينتهج جديدا في العرض والطرح لا بالنسبة للسينما الفلسطينية وحدها بل على نطاق السينما العربية بأسرها.

وفي المجال ذاته كذلك خروج فيلم «صندوق عجب» للتونسي رضا الباهي. ليس فقط أنه أفضل أفلام الباهي منذ فترة طويلة، بل واحد من تلك الانتاجات ذات القدرة على الجذب في أسواق عالمية كثيرة.

الفيلم العربي الثالث الذي لفت الأنظار هو «صندوق عجب». هذا ليس بالفيلم المؤسس على نحو سهل التداول، بل هو ليس خاليا من الشوائب عموما، لكنه من تلك التي تعمد الى نسيج خاص من التفاهم بين مبدعها (أسامة محمد) والنتيجة الفنية التي يختارها بصرف النظر عن قدرة هذا النسيج هدم جدران الوهم بين الجمهور العربي والفيلم الجيد نوعيا.

أخيرا، جاء نجاح مهرجان مراكش السينمائي الدولي ايذانا باستكمال ترتيبات المغرب للحاق بالوسط السينمائي العالمي. سابقا ما نجحت في جذب مختلف الأفلام الأميركية والأوروبية لكي تصوّر هناك. الآن تريد أن يكون لها مهرجانها اللامع الذي يسد ثغرة كبيرة في مناخ العلاقة السينمائية بين هذا العالم العربي وخارجه.

في مقابل هذه الانتصارات، هناك هزائم شنيعة. بعض هذه الهزائم جيدة وكنا بحاجة اليها لكي نفيق. في الحقيقة قد لا تكون هزائم على الاطلاق بل من جملة الانتصارات. المقصود تحديدا هو السقوط التجاري لمجموعة «الكوميديين الجدد» في معظمهم الكاسح. صيف العام الحالي بدأ ساخنا كما كان متوقعا له، لكن فيلما واحدا فقط هو «اللمبي» سحب من جيوب الجمهور المصري مدخراتهم، بينما سقطت الأفلام الكوميدية الأخرى سقوطا شنيعا بما فيها فيلم محمد هنيدي «صاحب صاحبه» الذي كان الاعتقاد الأرجح من قبل عرضه أنه هو الذي سيحطم الايرادات السابقة كلها. فيلم «مافيا» بطولة أحمد السقا واخراج شريف عرفة كان النجاح الكبير الوحيد لفيلم خارج سراب التهريج القائم.

وسط ذلك لا ننسى عودة محمد خان في «أيام السادات» بعد انقطاع عن العمل دام ثماني سنوات، والنجاح النقدي الذي واكب «مواطن ومخبر وحرامي» لداوود عبد السيد في مطلع السنة، ومثيله الذي واكب فيلم رضوان الكاشف «الساحر». والهزيمة السينمائية الحقيقية هي رحيل هذا المخرج المبكر وغير المتوقع. الكاشف كان واحدا من اولئك الذين حلموا ونفذوا ايضا سينما تهم الباحثين عن الابداع والتعبير الفنيين والاجتماعيين معا.

ولم يشأ العام على الانتهاء الا بخسارة السينما والوسط الفني عموما فنانة كبيرة أخرى هي سناء جميل التي أدهشت بقدراتها الادائية الفذة الجمهور العربي منذ أن ظهرت في «عبيد المال» (1953) و«يا ظالمني» (1954) وصولا الى أفلام أفضل اخراجا وأهم وقعا مثل «بداية ونهاية» (1960) و«الزوجة الثانية» (1968) واخر أفلامها كان «اضحك تطلع الصورة حلوة» (1999) وما غيابها عن «الصورة» العربية الا انعكاس لرداءة العمل في اطار السينما المصرية والعربية عموما. مثلها في ذلك مثل العديد من المواهب التي قضى تجار اليوم على امكاناتها بالعزوف عنها. صحيح أن التجديد أمر طبيعي، لكن التجديد يعني السير الى الأمام وحفنة «المهرجين الجدد» الذين سطوا على السينما الجماهيرية في الأعوام الثلاثة الماضية وحتى هذا الصيف، ساروا بها الى الخلف.

* عوامل خوف

* العام 2002 يجب أن يذهب في غياهب التاريخ على أنه العام الذي حقق فيه الفيلم التسجيلي نجاحا كبيرا. لأول مرة من 46 سنة استقبل «كان» في المسابقة فيلما تسجيليا طويلا هو «بولينغ فور كولمباين» لمايكل مور. ومن «كان» انطلق مور وفيلمه الذي يبحث في جذور العنف المعاصر في اميركا الى عروض تجارية ناجحة حول العالم بما فيها الولايات المتحدة ذاتها.

أفلام تسجيلية ناجحة أخرى منها النروجي «كل شيء عن والدي» والفيلم الأميركي «الفتى يبقى في الفيلم» عن حياة ومهنة الممثل المتحول الى منتج روبرت ايفانز («كوتون كلوب»، «الهروب» من بين أخرى). والعام على هذا الصعيد ينتهي بقيام اسرائيل بمنع فيلم تسجيلي أخرجه محمد بكري بعنوان «جنين، جنين». فقط قوّة السينما، تسجيلية ام روائية، يمكن لها أن تخيف مؤسسات عسكرية او سياسية كما فعل «جنين، جنين» مؤديا لتنشيط دور الرقابة الاسرائيلية لأول مرة منذ سنوات بعيدة.

الخوف ذاته هو الذي منع وصول «يد الهية» الى ترشيحات الأوسكار الأولى وربما هو السبب الذي يمنع السينما العربية بأسرها من النهوض. كذلك الخوف من ردات الفعل وانقسام الرأي العام في اميركا وخارجها هو الذي وقف وراء عدم التعامل مع موضوع الهجوم على مركز التجارة الأميركي في 11/9/2001 باستثناء مرتين: فيلم فرنسي بعنوان «تاريخ المأساة» أمّه احد عشر مخرجا بنتائج متفاوتة، وفيلم أميركي مستقل (جدا) عنوانه «الفتيان» عن تضحية رجال الاطفاء.