«جينوفا» وموسيقى أحاديث الناس

فوزي كريم

TT

الأوبرا من أوروبا الشرقية لم تدخل أبهاء الغرب إلا على مراحل وببطء، أحد أبرز مؤلفيها، التشيكي «ياناتشيك» (1854 ـ 1928)، لم يحقق موقعاً حتى في بلده إلا في مراحل عمره الأخيرة، على أنه من بين رواد الأوبرا التشيكية (سميتينا ودفورجاك) أكثرهم انصرافاً إلى هذا الفن، ولم يعرف له نشاط غيره إلا بصورة محدودة، قياساً إلى السابقين وأعمالهم الأوركسترالية الشهيرة.

كان يناتشيك، ذو الوجه الطيب، التاسع من بين ثلاثة عشر طفلاً لعائلة معلم فقيرة في شمال مورافيا. درس في عاصمتها «برنو»، مدينة الروائي كونديرا، وقضى كل سني حياته فيها، باستثناء مرحلة دراسة قصيرة غير موفقة في لايبزج وفيينا.

ولأن التراث الموسيقي الشعبي ظل أعمق عناصر التحرر والحيوية للموسيقي الحديث في هذه البلدان، فإن «ياناتشيك» انصرف لتجميع الألحان الشعبية، حتى اجتمعت بين يديه قرابة عشرة آلاف أغنية، أثرت عميقاً في أسلوبه، خاصة الألحان القصيرة التي تجد أثرها في موسيقاه الأوركسترالية. وكذلك «ألحان الحديث اليومي للناس»، الذي تجد أثره في موسيقاه الدرامية. يقول إنه كان يتنصت سراً على أحاديث العابرين، ويقرأ تعبيرات وجوههم، ويقبض على كل ذبذبة من أصواتهم، الانعكاس الذي يحسه في لحن الكلمة، فكم من تنويعات لحنية في الكلمة الواحدة كان يجد! لقد اكتشف في ألحان الحديث اليومي شيئاً أصيلاً وغريباً في آن، انها تنطوي على تغيرات داخلية بين المباهج والأحزان، حاولها بصورة رائعة في ثالث أوبرا له، وأول نجاح وضعه على طريق المجد، وهي أوبرا «جينوفا»، التي أخذها عن عمل مسرحي معروف لـ «غابرييلا بريسوما».

انها الأوبرا الوحيدة، من بين الأوبرات الأربع الناجحة، التي لم يستوحها من علاقة حبه الأخيرة مع المتزوجة «كاميلا»، التي تبلغ نصف سنوات عمره. كان «ياناتشيك» قد تزوج أول مرة من طالبة له تصغره بعشر سنوات، ولم يكن زواجاً ناجحاً، ثم تعلق بمغنية أوبرا لم تحقق إشباعاً. وفي العقد الأخير من حياته، تعلق بكاميلا، التي لم تبادله ذات العاطفة، وكتب لها أكثر من 700 رسالة حب (نشرت مترجمة للانجليزية)، واستوحى منها بطلات أوبراته: «كاتا كابانوفا»، «الثعلبة الصغيرة الماكرة»، و«حادثة ماكروبولوس».

أوبرا «جينوفا»، التي صدرت عن دار Erato تحت قيادة الألماني فيرنارد هايتنك لكورس وأوركسترا دار الأوبرا في الكوفن غاردن، مفعمة بالدراما وكثافة المشاعر. احتفظ «ياناتشيك» بالنص النثري، كما تجنب اعتماد الأغنيات المنفردة لصالح الأغنية المتواصلة. ثلاثة فصول متراصة من الانفعال لا تترك لك لحظة لغفلة عائلة فلاحية ـ شأن كل أبطال «ياناتشيك» ـ وفيها تتعلق جينوفا بحب رجل غادر، ومنه تنجب طفل خطيئة تحاول أمها التخلص منه بادعاء موته، ولكنها تقتله عمداً بالسر. وبعد انهيارات آمال تستسلم البطلة لحب قريب كانت ترفضه، واذ يتم مشروع الزواج بسلام أو يكاد حتى يقبل الناس هائجين وفي أيديهم جثة طفل وجد مطموراً بالثلج.

هنا نجد أكثر من عنصر يجعل أوبرا «ياناتشيك» حديثة، خاصة من ناحية المعالجة النفسية لأبطاله، في المنحى الموسيقي ومنحى الأفكار. أما التأثير الفولكلوري، فقد أغنى الألحان بالجانب الغنائي الذي لا يمل. على أن هناك عاملاً مؤثراً آخر من حياة المؤلف الشخصية. فالأوبرا أُلفت تحت ظل مرض وموت ابنته أولغا، وهي في العشرين من عمرها، ولقد أهداها لها، كما فقد ابناً صغيراً قبل ذلك أيضاً.