قصة السينما في مدينة جدة السعودية.. حكاية فريدة شتتها الرقيب المحافظ

فريد شوقي يزور سينما السحاحيري والشباب يجدون متعة في محاكاة فتى الأفلام ورومانسياته

TT

الحكاية ليست ضرباً من الخيال الفني، وهي في اللحظة نفسها بعيدة عن الخوارق لأنها ببساطة حكاية واقعية عاشتها مدينة جدة السعودية على امتداد ثلاثة عقود تقريباً احتضنت فيها أكثر من عشرة مواقع تفننت في تقديم العروض السينمائية ضمن قاعات اعتمدت التحايل على النزعات المحافظة لتقديم شيء من الترفيه البريء معتمدة على سلسلة من الأفلام العربية والأجنبية التي استحوذت على اهتمام الشارع العام حينذاك.

محمد سحاحيري الذي يمتلك اليوم جهازين للعرض السينمائي يجد متعة كبيرة في إدارتها لبعض الوقت والإشراف على صيانتها باعتبارها جزءاً مهماً من تاريخ الفن في هذه المدينة، ولا يقبل التنازل عن الجهاز الأثير على نفسه مهما كان الثمن، وقد خصص له ركناً مميزاً في صالة استقبال ضيوفه ليجدها فرصة تتكرر من حين إلى آخر لاستعادة شريط الذاكرة عن زمن جميل لم ينته مذاقه الجميل بعد. وتحتفظ ذاكرة مدينة جدة باسم فؤاد جمجوم الذي امتلك أشهر محل خاص لتأجير أجهزة السينما في حي البغدادية سنة 1960 وعمد إلى توريدها إلى باقي المحلات المشتغلة ببيع وتأجير الأجهزة وإلى الأفراد أيضاً.

* تجربة غير احترافية

* محمد صادق دياب الكاتب السعودي وأحد المهتمين بتاريخ مدينة جدة من الذين عاصروا تلك الفترة يشير إلى أن أمكنة العرض لم تكن صالات كما يتداعى إلى الذهن، أو أمكنة مغلقة كما يبتغي العرض المهرب بل مساحات مفتوحة تحفها المنازل مع بعض الحواجز البسيطة يفترش المرتادون أرضها، وقد يتفنن البعض بجلب عدة كراس خشبية من طراز خاص يتلاءم مع متطلبات ثلاث ساعات متتالية تمتد من الساعة السابعة إلى العاشرة مساء كل يوم محاطة ببعض الديكورات البسيطة ثم تطورت عمليات العرض بشكل احترافي في فندق العطاس الواقع في شمال أبحر.

ومن أشهر الأسماء المعروفة حينذاك بتقديم العروض السينمائية كما يشير دياب محمد أبوصفية في حي الهنداوية، سراج سحاحير في حي الشاطئ وعبد الله صالح الغامدي في منطقة كيلو 2 ، وسفيان فطاني في العمارية.

* نجوم الخمسينات

* وشهدت فترة الخمسينات انتشاراً واسعاً لأفلام إسماعيل ياسين «إسماعيل ياسين في الجيش»، في الطيران، بوليس حربي، محققاً بذلك قبولاً تمتزج فيه قسمات البراءة والذكاء والبراعة في التمثيل.

ومن أشهر الأفلام التي لاقت رواجاً منقطعاً في الستينات «عنتر وعبله» واستمر لفترات طويلة محل احتفاء أبناء مدينة جدة والوافدين إليها.

وفي فترة السبعينات تسيَد الفتى الوسيم صالات العرض السينمائي بقيادة محمود ياسين، حسن يوسف، عبد الحليم حافظ، وانعكست هيئته المدهشة وتفننه في ارتداء الملابس وسلوكياته على انماط حياة جيل الشباب ضمن عملية محاكاة بدت ملفتة للنظر.

ويطيب لذاكرة ذلك الجيل العودة إلى مقاطع من الفيلم الاستعراضي المصري« خلي بالك من زوزو» مستمتعين بالترديد مع بطلة الفيلم الراحلة سعاد حسني أغنيتها الشهيرة «ياه .. ياه.. ياواد ياتقيل»، وهذا من بدايات الممثل المصري حسين فهمي الذي قدم حينها من أميركا، ليقدم نموذجاً جديداً للبطل بعينيه الخضراوين وشعره الأشقر.

ولا تمر حكايات جيل السينما في جدة دون استعادة أحداث مهمة في أفلام ما بعد حرب أكتوبر 1973 مثل «الرصاصة لاتزال في جيبي» بطولة محمود ياسين ويوسف شعبان الذي قدم صورة المقاتل المصري الذي يحطم خط بارليف وينهي أسطورة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر.

أما الثمانينات فكان نجم الجمهور فريد شوقي ضمن أفلام «الأكشن» وأدوار الفتوة والصراع الذي جذب كثيراً من الشباب إليه ربما لتصويره جزءاً من خصائص نزوات تلك المرحلة في التي ينتمي إليها الشباب في مدينة جدة.

وحققت الأفلام اللبنانية الاستعراضية ذات التقنية العالية لفت نظر الجمهور حيث استعانت بأشهر الفنانين المصريين مثل حسين فهمي، نور الشريف، عبد المنعم ابراهيم.

ولئن ارتبط الفنان طلال مداح بذاكرة السعوديين باعتباره أشهر مطرب حينذاك إلا أنه قدم تجربة خاصة عبر فيلم « شارع الضباب» بالاشتراك مع صباح، ولم يكتب له النجاح.

ومن أشهر أفلام تلك الفترة « فتوات الحسينية» و«ورصيف نمرة 5» ومع ازدياد جماهيرية فريد شوقي دعاه سراج سحاحيري لزيارة قاعة العرض الخاصة به والتقاء جمهوره من السعوديين وكان اللقاء مؤثراً وحميماً تدافع الناس يومها لمشاهدة البطل الذي تعبأت به مخيلاتهم وشاشات عرض السينما مباشرة، كما ألف الجمهور السعودي حينذاك ممثلين مشهورين مثل محمود المليجي، توفيق الدقن، رشدي أباظة، أحمد مظهر.

أبكر حمادي، وعلي حسن من أبناء مدينة جدة الذين شدتهم عوالم الأفلام السينمائية في السبعينات أظهرا سعادتهما حين أحيت الشرق الأوسط زاوية أثيرة في ذاكرتهم مع الأفلام المصرية واللبنانية التي ازدهر عرضها بشكل يومي وإن كانت تشهد انتعاشاً واضحاً في إجازة نهاية الأسبوع حيث كان المجتمع يستمتع بإجازة يوم واحد « الجمعة» وتتراوح أسعار الدخول بين 2، و3 ريالات تعد قيمة معقولة في تلك الفترة.

مهتمون بشأن السينما حينذاك أكدوا أن جميع العروض وصالاتها لم تحظ بتأييد رسمي، ولم تقدم لها وزارة الإعلام الجهة المعنية بهذه المجالات ما يكسبها الشرعية ولذا يوصي القائمون على العرض السينمائي أحد الصبية للقيام بدور تحذيري يتمثل في مراقبة الطريق المؤدي إلى السينما وإخبارهم بقدوم رجال الحسبة الذين يطاردون صالات العرض السينمائي ويعملون على إغلاقها واعتقال أصحابها وسجنهم أحياناًُ.

* مطاردة رجال الحسبة

* ويتولى الصبي الذي اتفقوا على تسميته «أبو العيون» مهمة « ناظرجي» لرعاية ثلاث قاعات عرض على الأقل من مداهمات رجال الحسبة والتحذير عند قدومهم فتتغير الأفلام المعروضة وتخبأ الأجهزة، ويتحول الحاضرون إلى تقمص أدوار المدعوين إلى مناسبة اجتماعية أو لقاء سمر عابر. الخطة الذكية الأخرى دفعت بعض العارضين إلى نصب أجهزتهم في منزل وإعلاء شاشاتها في فناء منزل آخر استعداداً لمداهمات رجال الحسبة وعدم تمكينهم من مصادرة الأجهزة أو اكتشاف مواقعها.

ولم يكن لعمد الأحياء موقف مزعج تجاه العروض السينمائية فلم يحاربوها أو يتضامنوا مع أصحابها، وكذا فعلت الشرطة، لكن الصراع دام طويلاً مع رجال الحسبة الذين مارسوا حينذاك عدة أدوار عللها البعض برعاية المصالح الاجتماعية وتجنيب الشباب فرص الإلهاء غير البريء.

*... والنساء يحضرن أيضاً

* ينتمي غالبية مرتادي صالات عرض السينما في جدة حينذاك إلى فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و35 ويعود غالبيتهم إلى أبناء جدة يشاركهم القادمون إليها من مدن وقرى الجنوب السعودي، والوافدين من اليمن، وتقدم إليهم بعض المشروبات الباردة ويجلب بعضهم بعض المسليات لقضاء مالا يقل عن 3 ساعات يومياً يتابعون خلالها فيلماً عربياً يتوزع في ثلاث اسطوانات على الأقل.

الأثرياء من أبناء المدينة وأصحاب المناسبات الأسرية مارسوا دوراً مختلفاً في الاستمتاع بفن السينما حيث خصص لهم المستثمرون عدة أجهزة حديثة يمكن استئجارها لمدد مختلفة مع الأفلام، ويمكن الاستعانة بفني شاب لإدارتها والإشراف على تشغيلها إن اقتضى الأمر.

هذه التجربة الخاصة في تاريخ مدينة جدة أكثر المدن السعودية تسامحاً وانفتاحاً صارعت من أجل البقاء منذ نهاية الستينات وإلى مطلع الثمانينات لم تستطع المقاومة أكثر من ذلك أمام مواجهة المحافظين، ثم ظهور التلفزيون، وأخيراً الفيديو ليحول أهالي جدة أجهزة العرض التي يمتلكونها إلى ركن التراث مستمتعين بالحكايات الحميمة عنها، ولا بأس إن تحدثوا هامسين عن بعض تجاوزات الصبا والمراهقة حينذاك أمام الوجوه السينمائية الجميلة التي استولت على مخيلتهم.

والغريب أن لا تمر على تلك الفترة أقلام المؤرخين وتخلو منها أدبيات الكتابة عن مدينة جدة المتسامحة أسوة بكثير من المدن الساحلية الأخرى.