فيلم لبناني يستعيد الحرب الأهلية

«طيف المدينة» للمخرج جان شمعون يراهن على الذاكرة لتجنب حرب جديدة

TT

يستعيد الفيلم اللبناني «طيف المدينة» الحرب الاهلية، مسلطاً الضوء على المعاناة التي عاشها اللبنانيون ومنذراً بأن النسيان قد يؤسس لحرب جديدة. و«طيف المدينة» شارك في المسابقة الرسمية للدورة الثانية عشرة في مهرجان قرطاج السينمائي الاخير، ونال مخرجه جان شمعون جائزة تقديرية، كما شارك قبل ذلك في المسابقة الرسمية لمهرجان سينما البحر المتوسط الذي اقيم في مونبيلييه (فرنسا)، وكان مرشحاً لجائزتي افضل ممثل وافضل اخراج سينمائي.

وبعد مرور سنتين على تصويره الذي نفذ سنة 1998، يعرض حالياً في الصالات اللبنانية بعد ان ادرج ضمن عروض مهرجان القاهرة السينمائي.

والفيلم يعيد المشاهدين الى حقبة مضى عليها سنوات من عمر لبنان وتاريخه الذي شوهته الحرب الاهلية مستنزفة شبابه وشعبه، ويشدد كاتب السيناريو ومخرجه جان شمعون على اهمية ذاكرة الحرب من اجل تجنبها مستقبلاً، وهو ما يذكره على لسان سهام احدى شخصيات الفيلم (تقوم بدورها كريستين شويري) إذ تقول «من يراهن على النسيان يؤسس لحرب جديدة»، طارحاً تساؤلاً مفاده: «ماذا جنينا من قتل بعضنا البعض وهل نلنا سوى الذل والتقهقر الى الوراء لاهين بما رماه لنا الاستبكار محققين هدفه بتفرقتنا، فبدل قتله قتلنا انفسنا ولم يبق منا سوى طيف وشبه وجود، بل انه خيال لبناء وطن نحاول اعادته للحياة؟».

هذا ما يحاول الفيلم ايصاله مستحضراً حقبة بدأت مع اشتعال شرارة الحرب الاهلية سنة 1975 وانتهت سنة 1990، مع استعانة المخرج ببعض الصور الوثائقية المؤرشفة للحرب.

وتدور القصة حول «رامي» (مجدي مشموشي) وهو فتى يبلغ من العمر 12 عاماً، افقدته سنوات الحرب احلامه وآماله بأن يصبح رساماً. ويبدأ الفيلم من النهاية حيث يعمل «رامي»، وقد اصبح شاباً، سائق سيارة اسعاف ينقذ الجرحى والمصابين، ويستعيد ذكريات السنين التي عاشها منذ ان كان صبياً يبلغ الثانية عشرة من العمر وكأن الزمن الذي سبقه محاه النسيان.

ويسير شريط الذكريات ويبدأ تحطم الاحلام عندما يترك «رامي» قريته ومدرسته في جنوب لبنان وينزح مع عائلته الى المدينة (بيروت) هاربين من الاعتداءات الاسرائيلية.

وفي بيروت تبدأ القصة وتنعكس الصورة المثالية للمدينة في خيال «رامي» الى سراب، وتظهر امامه ملامح بيروت الحقيقية مع توالي الاحداث واصرار والده على تركه المدرسة والعمل في مقهى ارملة تدعى سلوى (تؤدي دورها نوال كامل) وهي تعيش حالة من الحب مع المغني «نبيل» (سامي حواط) الذي يقتل على ايدي التنظيمات، فتقرر سلوى الهجرة. وفي هذا المقهى يكتشف «رامي» الاضطرابات التي بدأت تهز حياة اللبنانيين، وسرعان ما تتحول الى حرب مسعورة تقسم المدينة الى شطرين (الشرقية والغربية)، لكن رامي يرفض الانخراط في صفوف الميليشيات التي يدخل في عدادها جميع من دفعهتم الظروف، ويفقد صديقته «ياسمين» التي تنتقل مع ذويها الى «الشرقية»، وتمر السنوات وياسمين ما زالت في البال، والقتل على الابواب و«المتاريس» تبعد عن بعضها البعض امتاراً قليلة يقضي بينها الشباب اللبناني معظم اوقاته ولياليه.

وتحين لحظة الحقد عندما يخطف والد رامي مما يدفعه الى حمل السلاح، وتنكشف من خلال ذلك حقيقة قادة، هم في الحقيقة ليسوا أكثر زعماء عصابات للتهريب والقتل والخطف، ويتحولون بعد انتهاء الحرب الى رجال اعمال اثرياء. ورغم حمل رامي السلاح فإنه يرفض الظلم ويدعو الى سلام الشعب الواحد من خلال مواقف عدة يلتقي خلالها بـ«سهام» المرأة المصممة على معرفة مصير زوجها المخطوف.

ولا يكتفي الفيلم بتصوير آثار الحرب في تدمير العقول والارواح وفضح اسبابها والمسؤولين عن اندلاعها، وانما يلعب على الوتر الانساني من خلال استعادة رامي في نهاية الفيلم بعضا من احلامه حيث يتابع في قريته تعليم الرسم للصغار، ويلتقي بـ«ياسمين» الطفلة التي احب وقد كبرت واصبحت امامه وهي تقف امام منزلها القديم تلتقط الصور التذكارية «كي لا يدمر كما فعلوا بغيره»، تقول ذلك وتبتعد عن احلامه مع زوجها وابنتها.

وعلى الرغم من محورية الحرب فإن الفيلم تناول قصص حب ثلاث من باب ما يقوله له مخرجه جان شمعون «الحرب تدمر الحب»، فمات نبيل وهاجرت سلوى، وافترق رامي وياسمين، وفقدت سهام زوجها.

ويقول جان شمعون الذي سبق أن نفذ افلاماً تسجيلية عن الحرب لوكالة الصحافة الفرنسية «انه ليس فيلماً تحليلياً عن الحرب، انا احكي عبر «فلاش باك» تجربة صبي عاش سنوات الحرب» ويضيف: «عبر تجربتي في السينما كنت على احتكاك مباشر بالواقع، وعايشت الشخصيات بأوهامها ومشاكلها واحلامها المستحيلة وراكمت التجارب».

ويذكر شمعون انه ضد الحرب «وللجيل الجديد الذي لم يعش سنواتها الحق في معرفة ما جرى، وهذه رسالة الفيلم الانسانية»، معتبراً ان «صغار المقاتلين في الميليشيات ضحايا زعمائهم» لافتاً الى تركيزه على دور المرأة «الايجابي رغم محدودية دورها في الحرب».

واستغرق «طيف المدينة» شهرين لانهاء عملية التصوير، ويقول شمعون ان عرضه تأخر منذ انتهائه عام 1998 «من اجل تأمين التمويل الذي اتى مشتركاً بجهود لبنانية ـ اوروبية، علماً ان انتاجه لبناني ـ فرنسي».

ومن جهته يقول الممثل مجدي مشموشي «ان الرسالة الأهم التي يؤديها الفيلم هي ادراك كيفية توجيه البندقية التي يجب ان تتوجه نحو هدف واحد من دون اهداف اخرى تتضمن مصالح شخصية واتجاهات سياسية معينة، بمعنى ان يكون الهدف موحد وهو اسرائيل».

وبما انه من الاشخاص الذين عاشوا الحرب فلم يجد مشموشي صعوبة في اداء الدور، ويقول «عشت الحرب وتناقضاتها التي سجنت في داخلي وتحتاج الى كبسة زر لتخرج، اضافة الى قرب شخصية رامي مني، فأنا فنان اقاربه في الطموحات والاحلام ».

=