مائة عام من التشكيل العربي

مائتا لوحة من مجموعة شخصية في معرض ينظمه متحفا قطر والشارقة

TT

* فريد الزاهي حين تسلمنا دعوة أحمد يوسف (مدير متحف قطر) في الطرف الآخر من الخط لحضور المعرض الذي ينظمه متحف قطر مع متحف الشارقة، تحت عنوان «مائة عام من التشكيل العربي» ما بين 25 نوفمبر (تشرين الثاني) و25 ديسمبر (كانون الأول)، اعتبرت في دواخلي أن الفكرة قريبة من الطوباوية، وأقرب إلى الاستحالة منها إلى الإمكان. فنحن ككتاب ونقاد فنون عرب، قد يكون بإمكاننا الحديث عن السينما العربية في مائة عام، نتمكن من ذلك نظرا لإمكانات تداول الشريط السينمائي في أشكال متعددة من الـ16 ملم إلى 35 ملم، مرورا بشريط الفيديو وحاليا بالأقراص المدموجة، بالرغم من غياب متحف عربي شامل للسينما أو مكتبة سينمائية عربية (سينماتيك)، بالمقابل فإن معرفتنا بحاضر الفن التشكيلي العربي وماضيه تظل متناثرة نظرا لغياب قنوات التواصل والحركية بين البلدان العربية في مجال الفنون التشكيلية، التي تتطلب تنقلا للأعمال، ومعارض وكاتالوجات وتوثيقا بصريا معينا. إن جيلنا والجيل السابق علينا عاجز عجزا بينا عن الرؤية العيانية الشمولية لمجموع الإنتاج التشكيلي والنحتي والحفري لفناني بلده، فمابالك بكل الفنانين العرب. فالناقد من بيننا يجهل كل شيء تقريبا عن جيراننا الفنانين الجزائريين والتونسيين مثلا، فما القول عن الفنانين السودانيين أو اللبنانيين؟ كما أن الأعمال الفنية مبثوثة هنا وهناك بين المجموعات الشخصية المحلية والخارجية، وبين المجموعات المؤسساتية والمتحفية المحلية والدولية، ولم تخضع للتأريخ الدقيق لا من قبل النقاد ولا من قبل المؤرخين (الغائبين) للفن العربي، وهو الأمر الذي يجعل من تحقق معرض من هذا القبيل أعسر من تحقق الوحدة العربية التي طالما حلمنا بها عقودا من الزمن.

المعرض وامتداداته من ثم، فإن عرض ما ينيف عن المائتي لوحة من مجموعة الشيخ حسن بن محمد بن علي آل ثاني، التي احتضنها متحف الشارقة في هذا المعرض، تشكل حدثا تشكيليا وثقافيا يحظى بالسبق في جمع شمل الفن العربي الحديث والمعاصر في بوتقة واحدة تعرض نفسها في تناغم تطوري يمنح للمتتبع فرصة الوقوف على منابته وتحولاته وتوجهاته وقطائعه وأزماته ونَفَسه وتطوراته. والمجموعة المعروضة تشكل جزءا فقط من مجموعة أكبر وأشمل تغتني بشكل كبير من الفن العربي المعاصر. إن ما أتاحه هذا المعرض لأول مرة في تاريخ تلقي وعرض الفن العربي من منفتحات يمكن تلخيصه في: إمكان خلق مجموعات فنية عربية كبرى تحظى بالنسقية والشمولية وتتحكم فيها المراكمة الكمية والانتقاء النابع من معرفة عميقة بتطور الفن التشكيلي في العالم العربي، إمكان تنظيم معارض مرجعية شاملة ومتكاملة تخص التشكيل الصباغي والنحت والحفر وغيرها، وإمكان التفكير في نقل هذا المعرض وتحويله إلى معرض متجول يقام في كل المعارض العربية، بل حتى في بعض العواصم الفنية الغربية. لذا فإن هذا المعرض يتيح لنا من جهة أخرى بالحلم بمجموعة من البنيات المعرفية المحيطة به: كموسوعة الفنون العربية العربية المعاصرة (مطبوعة ومرقومة ومصورة)، وقاموس الفنانين العرب المحدثين والمعاصرين، والمواقع على الإنترنت الخاصة بالمجامع الفنية العربية، ودليل المؤسسات والمتاحف الجماعية والمدعمة للفنون التشكيلية العربية، ودليل قاعات العرض العمومية والخصوصية... الخ. فمن شأن هذه المكونات إغناء الجهد المعرفي الذي يقوم به النقاد والفنانون للتعرف بواقع وآفاق الفنون التشكيلية من جهة، والعمل على تجذير التذوق الفني لدى هواة الفنون البصرية بصفة عامة. معرض التحولات تقدم جغرافية المعرض الداخلية نفسها في شكل رحلة تبدأ بالرواد لتنتهي بأبرز الفنانين المعاصرين. هكذا التهمت أعيننا اللوحات الواقعية والرومانسية الأولى التي طبعت دخول العرب إلى الحداثة التصويرية، من لوحات سلمان المصور في تسعينيات القرن الماضي وتوفيق طارق في بدايات القرن، إلى الهندسية المأسلبة للوحات أحمد الشرقاوي وكمال بلاطة، مرورا بأسماء كبرى طبعت مسار التشكيل العربي الحديث والمعاصر من شفافية صليبا الدويهي وسوريالية رمسيس يونان، وتعبيرية الجيلالي الغرباوي وراشد ذياب وتخطيطية نجا المهداوي.

وتسري العين لاهثة على إيقاع التحولات، تحاول استجلاء الغائب والحاضر، وتتغيا استكناه مواطن القوة والانعطاف، لتجد نفسها محمولة على رجات القطائع الخفية والبينة، وعلى أنفاس ونبضات الانزلاقات الهادئة، من هذه الرؤية لتلك، ومن هذه التقنية أو المادة لتلك. وكأن هذا المعرض أشبه بمغارة علي بابا، يختزن ما انتُزع من الزمن العربي الكاسر السادر، ليمنح هكذا للرائي بعد ترميم اللوحات التي طبع عليها التهميش والتشويه وتجاعيد لإنكار آثاره، كي تعود به إلى منابع الإبداع المتوحد.

فالفن العربي مفتاح لحداثتنا التاريخية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مثله في ذلك مثل الكلمة، والصحيفة والكتاب، والسينما. بل إنه تجاورٌ طالما كان لدى الكثيرين مبعثا للمزاوجة بين قوة الشعر وشعرية اللوحة. تجسد ذلك بجلاء اللوحة النموذجية التي احتضنها المعرض في مفتتح قاطرته الحركية: بورتريه نابض بالعمق والمأساوية يحمل توقيع جبران خليل جبران، مرسوم بالقلم على الورق، خالقا بين الكتابة واستدارات التخطيط الراسم علاقة توجد في أصل ذاكرة اللغة العربية (فكلمة صورة في العربية تعني، في ما تعنيه، الوجه والخط والكتابة والشبح والرسم...).

حين تواجهنا هذه السلسلة من الأعمال بكاملها في فضاء واحد، تشتعل في الذات الرائية مراثي هذا العالم الأعمى المنكر للتشكيل، المهمش له في مؤخرة العمل الثقافي، الرامي به في دياجير اللهو والهواية. وفي الآن نفسه تمتلئ مساربها بغنى وتنوع وزخم التجربة العربية في مجال التصوير. إنها تنهض كمكون واحد ومنشطر في الآن نفسه، يأوي الاختلافات الجمالية بقدر ما يشير إلى مواطن تآلفاتها، بعيدا عن كل الاتهامات بالاستغراب والاستلاب والتقليد والمحاكاة للآخر (الغرب). فهذه السنون المائة كانت كافية للتملك الفني لفضاء اللوحة، ولتحويله إلى فضاء ذاتي متجذر في السلوك الجمالي للفنان العربي تقنية ومواضيع. ومن التشخيص إلى التجريد، يزج بنا المعرض في ما وراء ثنائية غريبة عن عالمنا العربي والإسلامي. فالتشخيص لغةً (من شخص) هو توليد الأشباح والأطياف، وهو بُعْد جذري عن الواقعية. والتجريد نزع للحجب والأستار، وهو عودة إلى جسم الشيء وصورته الحقيقية. وفي هذه المركبية الخاصة التي يتجاور فيها المشخص والمجرد ويتبادلان المواقع في ذاكرة اللغة (الواصفة للعمل الفني)، تتبدى لنا لعبة المرايا الأصلية التي جعلت أعمال الأربعينات والخمسينات في العالم العربي تتجاوز الانطباعية نحو المنزع التخييلي (السوريالي) والتعبيري الغنائي المتصل بمآسي الذات ومكنوناتها، وتنحو باتجاه الكثافة التعبيرية والخلط بين المرئي واللامرئي، وبين المجسد والمجرد. وبذلك تكون القوة المحركة لهذه الأعمال بكاملها أشبه بسمفونية ضاجة بالحركات، مسكونة بلحظات الصمت والانبجاسات القوية للنغمات المجددة.

إن هذا الحدث الفني بقدر ما يشكل تأسيسا لتلق جديد للفن العربي الحديث والمعاصر، بقدر ما يبلور لدينا الإحساس بالمسؤوليات الجهوية والعربية تجاه إحدى مواطننا الإبداعية الأكثر تشكيلا لصورتنا الحية، لدى أنفسنا ولدى الآخر. إن الفن التشكيلي فن للرؤية والعرض والمتعة البصرية، وهو لن يكف أبدا عن المطالبة بحقه في العرض والتداول بما يتلاءم مع قيمته ومستواه الجمالي.

* كاتب وناقد من المغرب كلام صور:

ـ لوحة للفنان حسن الكلاوي ـ من أعمال كمال بلاطة ـ لوحة لجاذبية سري