صوت عميق بتقنية عالية

صدور أسطوانة CD جديدة تضم مختارات للألماني أندرياس شول

TT

فوزي كريم طبقة «الكاونترتينور» من طبقة أصوات الرجال النادرة فهي وريثة طبقة صوتية كانت تسمى في القرن السابع عشر «الكاستراتو» وكانت تلك تنتج عن عملية اخصاء للصغار الذين تطمع الكنيسة في المحافظة على أصواتهم، التي تقرب للاصوات النسائية وذلك بسبب استبعاد العنصر النسائي من الغناء الكنيسي. طبقة «الكاونترتينور» وليدة نمو طبيعي داخل الحنجرة الذكورية، ولكنها ترتفع عن طبقة «التينور» الصداحة بأكثر من درجة وليست أنثوية للأذن المدربة حتى لو التبست أحياناً مع طبقة «الآلتو» الخفيضة. وما يميزها سحر خاص، فيه شيء ملائكي يخاطب أذناً داخلية لدى المستمع. هناك مغنون معدودون هذه الايام. وسحر هذه الطبقة يتميز بصوت صاحبها. كانت انجلترا محتكرة لهذه الطبقة منذ فترة طويلة. ومع بعث التراث الباروكي والموسيقي المبكرة، اتسعت رقعة «الكاونترتينور»، فبدأت تظهر مواهب عديدة في أكثر من مكان لعل أكثرها التماعاً وتأثيراً وجاذبية وملائكية هو صوت الألماني «اندراس شول».

انه من مواليد 1967، في مدينة صغيرة بالقرب من «فايسبادن»، ومن عائلة موسيقية. كان أبوه وجده مغنيين في فرقة منشدين شهيرة، ولقد التحق «شول» بالانشاد وهو في السابعة، ولذلك ألف الموسيقى المبكرة والباروكية وأصبحت لصيقة بوجدانه، ولم يغادر طبقة السوبرانو العالية والآلتو الخفيفة حتى بعد ان انكسر صوته وهو في سن الثالثة عشرة. وفي السابعة عشرة وبعد خدمته العسكرية قرر الانصراف الى طبقة صوته الموسيقية بصورة جدية. كانت المانيا الموسيقية تخلو تماماً من هذه الطبقة الصوتية، ولذلك ذهب الى بلجيكا للدراسة على يد مغنٍ من ذات الطبقة وقائد اوركسترا شهير هو «رينيه ياكبسوس» ومع هذا الأخير ومع قائد الأوركسترا الاميركي الذي يقيم في باريس «وليم كريسني» بدأت رحلة «اندرياس شول» الفنية الخفيفة باتجاه العمق والشهرة معاً. بدأ يطلع صوته على الناس مع «أوراتوريو بعيد الميلاد» للألماني الباروكي «شوتس»، ثم «آلام ماثيو» لـ «باخ» و«مسايا» «هندل» وبسبب شعبية العمل الأخير فقد كان بابا مفتوحاً بين «شول» وبين النقاد وجمهور الموسيقى.

صوت «اندرياس شول» تقنية عالية من دون جهد. لقد غنى في لندن عام 1992وقدم اغنيات انجليزية مبكرة مع آلة «اللوت» وهي أغنيات تفترض دقة في الاداء بسبب اعتمادها اللحن الخيطي البسيط جداً. وكان اداء «شول» عذباً آسراً، بحيث أصبح هدفاً لأهم قواد الأوركسترا.

في السنوات الأولى من أدائه كان صوته رفيعاً وأكثر بياضاً، بتعبيره هو، وهذا يعني انه لم يصبح أكثر غنى ودفئاً، في السنوات الأخيرة تحقق هذا الغنى وهذا الدفء في الكثير من الاعمال التي أداها لموسيقيين آخرين خارج «باروك» ألمانيا. فهو بعد ان غنى لـ «باخ» و«هاندل» و«شوتس» ولمؤلفين انجليز مبكرين التفت الى «مونتيفيردي» و«فيفالدي» و«كالدارا» من ايطاليا واليوم يعرفه كل متابع للموسيقى.. يعرف الصوت الذي يشبه ينبوعا روحيا لا مادة فيه، يخرج لا من حنجرة بل حلم، خاصة في ادائه «ستابات ماتر» (الأم الحزينة) لـ «فيفالدي».

كان «اندرياس شول» قد تعاقد مع شركة «هارمونيا موندي» لتسجيل الموسيقي ولمدى بعيد، ولكن الأمر لا يمنع قبوله عرضاً آخر كالذي حدث مع «ماكريش» الذي سجل معه أوبرا «سليمان» لـ «هاندل» في شركة «اركايف» الألمانية. دار «هارمونيا موندي» قدمت عددا ممتازا من مساهمات «اندرياس شول» اغنيات «باروك الألمانية»، أغنيات فولكلور انجليزية مع آلة اللوت، «القداس إن بي ماينور» و«آلام ماثيو» وبعض الكانتاتات لـ «باخ» و«مسايا» وأغاني لهاندل وأخرى لـ «مونتيفيردي» و«فيفالدي».

من هذه الاصدارات جميعاً قدمت الدار أخيراً منتخبات تمثل هذه الأعمال بصوت «شول» خير تمثيل قدمتها في اسطوانة CD واحدة تمتد لـ 75 دقيقة. ساعة وربع الساعة في ابحار يفتقده كل مولع بالموسيقى الجدية. لأنك لا تستمع الى رحابة «باخ» الاستثنائية ولا إلى أفقه الغامض نصف المضاء، ولا إلى فيض «هاندل» الذي يخرج من فهم استثنائي للنفس الانسانية ولا إلى عجائبية «فيفالدي» في عمق تقلباته بين السرور الرقيق والعنف العاصف والدموع الصامتة، ولا الى جديد موسيقيين لا نلتقي بهم كثيراً مثل «كالدارا» و«باكستهيود»...الخ، بل انك تلتقي مع هؤلاء عبر رؤية روحية جديدة. لـ«شول» الشاب نفسه رؤيا تخرج من أبهاء كنيسة أو حرم روحي لا من قاعة كونسيرت أو استوديو تسجيل.

من ذات الدار صدرت أوبرا نادرة لموسيقي غير معروف كثيراً، الأوبرا هي Croesus والمؤلف الماني هو «رينهارد كيسر» (1674 ـ 1739). ولقد أطرى النقاد هذا العمل ولكني لم أحصل بعد الا على مختارات دعائية منه تكشف عن لمسات جماله. أما الفيض فلا سبيل اليه إلا عبر سماع الأوبرا التي تمتد لأكثر من ساعات ثلاث.

=