هؤلاء الذين يغنون بصمت

علي المندلاوي

TT

بعيداً، بعيداً جداً عن أصالة والساهر ونجوى كرم، بعيداً عن الملاعب المغلقة والمفتوحة التي يغني فيها نجوم الأغنية الشبابية، بل وبعيداً عن الشباب وملاعبهم.. في قاعات شحيحة الضوء لا يتعدى عدد مقاعدها الثلاثمائة، ولا يقصدها سوى متذوقين مصطفين يأتون خاشعين، يستمعون خاشعين، ويرحلون وفي أرواحهم رعشة خشوع.

قاعات قليلة في قلب أوطاننا، كثيرة في أصقاع بعيدة لا تتكلم لغاتنا جمهورها مولع بسحر الأصيل أينما كان، كيفما كان، ومثلما كان! كنا نفراً لا يتعدى الثلاثين دعينا الى استوديو يعود لفنان هولندي في أمستردام كان العازف «نصير شمة»، وكانت مديرة احد أهم المراكز الفنية التي تنظم حفلات الغناء وموسيقى الشعوب في هولندا تستمع باهتمام الى الانغام الصادرة من عود شمة.

نظمنا أكثر من أمسية للفنان منير بشير، في معزوفات شمة خروج على الخط الذي يقدمه مركزنا. قالت المديرة الموقرة، بعد أشهر تلقينا دعوة من قاعة «رازا» التي كانت المديرة الصارمة تديرها، الحفل كان لشمة! قبل أيام كنا في إحدى الكنائس القديمة التي أحيلت على التقاعد في لندن. كانت نجمة الحفل شابة من الجزائر عملت على اختزال الفرقة الموسيقية التي اختصت باللون الاندلسي الذي تغنيه الى خمسة عازفين مهرة ملأوا الفراغ الجليل الذي أحاط صوت «بهجة رحال» الشجي بنوع من السحر لم تتمالك أكفنا عن التصفيق جذلا بما كانت وكانوا يقدمون، مثلما كانت الزغاريد الجزائرية تتصاعد بين الحين والحين من بين المقاعد الخشبية المتلاصقة كأنها تكمل صياغة جملة موسيقية ترك الصائغ الأول قبل عشرات السنين فرصة إنشادها لمستمعين حبسوا أنفاسهم مدهوشين بقوة الصوت وشاعرية الكلام ورهافة الأداء الغنائي والموسيقي.

في الليلة السابقة أدت «فريدة محمد علي» عدداً من المقامات العراقية في نفس الكنيسة المعتقة، فخيل إليّ ان الناقوس الكبير الذي توقف عن الرنين منذ سنين طويلة تحول الى حنجرة تصدح بالحياة.

لم ترتفع الهلاهل العراقية، فالحشد المستمع كان في أغلبه انجليزيا، وكأن الجالية العراقية التي غادرها الفرح منذ زمن لم يبلغها الخبر، ولم تسمع بحفل ساخن للمقام يقام في خيمة منفاها البارد.

سبعون عاماً من القدود حلت ببروكسل، غنى في تونس، عرج على لندن صدح في أوترخت بهولندا، تدلل مع فرقته الموسيقية التي لا تتعدى أصابع اليد في حلب حيث يقيم الشيخ الجليل «صبري المدلل» ويحترف الغناء. عقيرة «صباح فخري» وقبله «محمد الدايخ» رددا لحن البقاء في الشام. «يوسف عمر» أدى مقاماته في المقاهي البغدادية وعندما نقلها إلى التلفزة أودعها في كل قلب، خلفه «حسين الأعظمي»، فحمل الإرث ونقله من شاطئ دجلة الى معهد العالم العربي على شاطئ السين في باريس. «عائشة رضوان» تنقل سحر المغرب، حيث تكون ومواطنتها «ثريا الحذراوي» تخرج الملحون من السقيف الى سقف العالم.

«لطفي بوشناق» يغادر القاعة المهيبة في بيت تونسي موغل في القدم الى الملعب المفتوح فيصاب عوده بالرشح، يخشى عليه من برد التجديد فيعود ملفعاً بعباءته التونسية البيضاء القصيرة الى حشد ينتظر أوبته عند باب سويقة وباب بنات والحلفاوين. فرقة من أربعة أفراد من صعيد مصر، ثانية من اليمن، ثالثة منا، حين نتشبع بأصالتنا ونعرف كيف نقيّم مبدعين يكتفون بالخبز والزيتون وتصفيق خافت! =