العازف السوري الزركلي: تعدد الأصوات وتوافقها غير موجود في الموسيقى العربية

TT

دائما كعادته مهووس بالهم العربي، يحمله في حديثه، في يقظته، في حله وترحاله «ان العالم العربي لعب دورا في تاريخ الموسيقى الغربية، حيث خطا بآلة الربابة البسيطة نحو آلة الكمان، كما انبثقت عن آلة العود كل الآلات الوترية الاوروبية، فالتأثير الموسيقي العربي نجده منعكسا على كثير من الابداعات لمؤلفين موسيقيين غربيين، حتى ان اوبرا عايدة لفردي جاءت نتيجة رغبة احد الملوك المصريين بمناسبة افتتاح قناة السويس عام 1869 وعرضت لأول مرة عام 1871، كما ورد في كلمة الافتتاح، التي القاها الدكتور اكرم اسكندر المشرف على قسم الادمان بمستشفى ولاية نيدازكسن (السقالبة السفلى) في منتصف الشهر الماضي بمناسبة تنظيم حفل موسيقي لآلة البيان قدم خلالها العازف السوري والبروفيسور بالمعهد العالي للموسيقى بدمشق غزوان الزركلي، مقطوعات لكل من هايدن، موتزارت، شوبان وشوبرت وفي الختام للملحن السوري نوري الرحيباني، وذلك بقاعة حفلات بلدية مدينة كونكسلوتر (الملك لوتر) هذا الحفل الذي عرف حضورا جماهيريا واسعا «ان سورية القديمة لم تعرف تطور الابجدية الاولى للانسان فقط، بل عرفت كذلك الابجدية الموسيقية كما اثبتتها الحفريات الاخيرة».

كانت المعزوفات المقدمة مختارات اجتثت من غياهب الشوق، الحان انتشاء واجواء تذوق كلاسيكي انساني منحتها يد الزركلي متعة الحنين ورهافة الاحساس، فقال احد العرب الحاضرين: «لو كان هذا العازف اسرائيليا لرفعوه الى قبة السماء». عبر الزمن كوّن العازف السوري المولود سنة 1954، بدمشق علاقة صداقة ذات نوع خاص مع البيان «لانها صداقة مبنية على نوع من العدالة»، كما يصف الزركلي تجربته مع البيان «فبقدر ما يعطي الانسان للآلة بقدر ما تغنيه الآلة من عطائها وتثمر تجربته الوجدانية بها» لقد شهدت دراسته محطات بلغات مغتربة واسلوب عزف مغاير، معاهد عليا في دمشق وفي برلين وموسكو، فكيف يرى الزركلي، استاذ البيان في المعهد العالي بدمشق وبغيره من المعاهد الموسيقية الدولية كالمانيا، الحاصل على العديد من الجوائز العالمية وعازف مداوم في قاعات اربع قارات اميركا واوروبا وآسيا وافريقيا، واقع الموسيقى العربية؟

ـ انها تحيي حالة عجز تام اذا ما نحن صوبنا انظارنا شطر الموسيقى الخفيفة، التي يطلق عليها اسم الموسيقى الكلاسيكية او العربية القديمة، مع استثناء طفيف في بلدان المغرب العربي، حيث هناك اهتمام بهذا النوع الموسيقي، فقد بدأ الاندثار يطول هذه التقاليد الموسيقية في الشرق العربي مثلما في العراق او سورية، ما عدا القاهرة، فلا نجد في هذه البلدان اضافة الى الاردن ولبنان والسعودية ودول الخليج عموما مدرسة تتبنى او تحفظ هذا الصنف من الموسيقى.

فحين نعمق النظر في الموسيقى الخفيفة الشعبية (الدارجة) نجدها تحتوي بنسبة 95% على ايقاعات جميلة ذات جذور هندية، تركية او اندلسية. فالمقام الاسباني (نيه) له وجه شبه وقرابة مع مقام العجم، وهو مقام معروف في الشرق العربي ومشهور جدا باسم الكرد لانه مقام اساسي عند الاكراد ويستعمل في الموسيقى العربية كثيرا، مثلا في الاناشيد الوطنية او حتى في اغان عاطفية مثل اغاني محمد عبد الوهاب. في التقاليد الاوروبية يسمى (فيجين) او فيجي وهو اصله شرقي، فالاوروبيون يعتبرون الحضارة الاغريقية هي بدأ الحضارات، لكن الحضارة الاسيوية هي قمة الحضارات، ففي هذه الحضارة تكون العلم الموسيقي كالمقامات ومنها انتقل بعد ذلك الى اوروبا البيزنطية والجروجرانية، فهذه التأثيرات الموسيقية الهندية، التركية او الاندلسية في الاغاني العربية الدارجة تعكس مدى قابلية الاذن العربية لهذه الالوان، التي تمت لها بصلة تاريخية وقرابة فنية،، لذا لا يمكن هنا الحديث عن اصالة مطلقة، فإذا نحن اعطينا للاغنية الخفيفة كلاهما هنديا او اسبانيا فسوف لن نشعر بضخامة الفارق بينهما، فالواقع الموسيقي العربي يدعو، للاسف الى كثير من الانتباه، الى التفكير والتساؤل عن ماذا يمكن القيام به، قصد اعادة التوازن الى هذا الاختلال الموسيقي، الناتج عن عدم وجود تعامل موسيقي اكاديمي عربي، يجذر اصول الموسيقى العربية، ينشرها ويعلمها للاجيال المقبلة من الاطفال والشباب.

الزركلي رغم عالمه الموسيقى الكلاسيكي، حيث انه عزف المقاطع المنفردة في امسيات موسيقية في اكثر من ثماني عشرة مدينة عالمية منها: نيويورك، دار السلام، مدريد، باريس، هلسنكي، موسكو، طشقند، القاهرة، عمان، بيروت، برلين وغيرها، فهو من دعاة التجديد في اطار الاصول الموسيقية العربية، انه يؤمن بوجود بزوغ فجر زمن موسيقي عربي جديد، مأزور بدراسات معرفية جديدة، فلا يمكننا ان نبقى رهيني اعادة انتاج ما سبق وتم انتاجه، لانه من دون ريب، ان الزمن لا يتقهقر راجعا الى سالف عهده، مع ذلك فإنه في امكاننا اعطاء فن متجدر ينتج انبهارا جديدا.

وعن سؤال ماذا يمكن ان تتعلم الموسيقى العربية من الموسيقى الكلاسيكية؟ يقول الزركلي كخبير في مجال الموسيقى الكلاسيكية Harmoni: تعدد الاصوات وتوافقها، شيئان غير موجودين في الموسيقى العربية، فالموسيقى العربية نمطية ذات الصوت الواحد، لكنها في المجال اللحني غنية جدا وتشتمل على ثراء من الايقاعات وهو ما يميزها عن الموسيقى الاوروبية، التي مجالها اللحني ضيق وايقاعاتها اضيق، لكن مع ذلك لا يمنعنا هذا من ان نتعلم منها التجانس، التداخل والتنوع الصوتي في ما بينها، لكن قبل ذلك علينا ان نتعلم من اوروبا الطرق العلمية للتوجيه الفني والمنهج الاوروبي هو ما علينا ان نتعلمه بالاساس.

ويضيف الزركلي: شخصيا تعمقت ثقافتي الموسيقية العربية بشكل اساسي في مدينة برلين، ففي برلين وحدها يوجد 15000 مصنف عن الموسيقى العربية. وهذا يظهر الاهتمام الغربي واحترامه للحضارات الاخرى علميا وفنيا ولا اقول سياسيا.

وعن سؤال اين يكمن مستقبل الموسيقى العربية؟ اجاب قائلا:

ـ حين نتحدث عن العالم العربي فإننا نتحدث عن بلاد عربية مختلفة، متعددة الثقافات والتأثيرات، بلا شك ان العرب تجمعهم روابط قوية وتشدهم الى بعضهم، لكن هذا لا يمكن ان يشغلنا عن الانتباه الى الفروق الموجودة بينهم، فعلى المستوى الموسيقي هناك المغرب العربي، الذي له تجربة معينة، هناك مصر، سورية وبلاد الشام باتجاهها الخاص، العراق ودول الخليج العربي واليمن ذات تجربة مميزة، ثم هناك السودان او موريتانيا في اقصى الغرب العربي والصومال لها تجربة التمازج مع الموسيقى الافريقية، فنحن لا بد ان نأخذ المنطقة العربية بكل تفاصيلها، وهذا التنوع يحتضن جماله في نسق اختلافه، فكل منطقة وكل بلد في الوطن العربي لا يمكن ان يتم فيه من الناحية المبدئية تقدم موسيقي خارج اطار تكثيف وتفعيل التعليم الموسيقى، فهذا المنهج،حسب علمي، قليل جدا في البلاد العربية بشكل عام، في سورية مثلا عندنا مدارس متخصصة في الموسيقى الكلاسيكية الاوروبية بينما لا توجد مدرسة واحدة متخصصة في الموسيقى العربية الكلاسيكية، فهذا شيء يجب بالضرورة تداركه، فمن ناحية نؤكد دائما، سياسيا، على العروبة والقومية ومن ناحية اخرى لا نعير الموسيقى العربية الاصيلة ادنى اهتمام، فمن لا يكون متمكنا من لغته لا يمكنه الشعور بجمالها، لذا يصبح من المستحيل عليه ان يبدع في لغة اخرى، فاذا نحن استطعنا تطوير هذه الابجدية بأحاسيسها وانسيابيتها، فاننا سنصبح عندها قادرين على ان نجعل من هؤلاء الشباب والاطفال اجيالا مدركة لاهمية ثقافتها وفي الوقت نفسه تذوق الثقافات الموسيقية الاخرى.