مهرجان "كناوة وموسيقى العالم": عبق الماضي والمستقبل خلف أسوار "موغادور"

بعض أهل الصويرة تذكروا "عطر الطفولة" فكانت بداية تجاوز مرحلة الغيبوبة

TT

يعمل مختار بلودان نادلاً في أحد مطاعم الدار البيضاء الراقية. درس مختار في مدرسة للسياحة في الدار البيضاء. كانت أمنيته أن يعود إلى الصويرة مسقط رأسه ليعمل هناك. كان ذلك في بداية الثمانينات. لكن مختار سيدرك أنه سيواجه عند عودته البطالة. لم يعد السياح يقبلون على المدينة التي استقبلت في زمن مضى أكبر أفواج من الشباب الهيبيين. كانت الحركة الهيبية في أواخر الستينات وأوائل السبعينات أكبر حركة احتجاج شبابي يعرفها الغرب. انتعشت المدينة مع أولئك الغاضبين الذين كانوا ينامون في شوارعها وأزقتها وساحاتها بآلاتهم الموسيقية وأسمالهم وشعورهم التي تتدلى على أكتافهم يتعاطون مع الحرية كمفهوم مطلق. في تلك الفترة افتتح أول وآخر مطعم من سلسلة "ويمبي" الإنجليزية للأكلات السريعة في مدينة مغربية. تأثر بعض شباب الصويرة بتك الموجة. كثيرون تعلموا منهم الإنجليزية. كان مختار أحد هؤلاء. لكن الهيبيين غادروا الصويرة فجأة وكأن بحر المدينة ابتلعهم. لقد ذرتهم الرياح.

ظلت هذه المدينة التي يطلق عليها السياح اسم "مدينة الرياح" تعيش لعقود العوز والفاقة. الحكومات المغربية المتعاقبة لم تهتم بها، ولم تخصص لها أية اعتمادات مالية لتطويرها، حتى بدأت المدينة تعرف حالة موات. كانت تحتضر.

لم يكن مختار يجد ما يغري لزيارة مدينته. كان يكتفي بزيارة سريعة لأسرته وفي سنوات متباعدة. لكن منذ خمس سنوات ظل يضرب موعداً مع المدينة. ما أن يأتي شهر يونيو (حزيران) حتى يستعد للسفر عبر حافلة تقطع مسافة 350 كيلومتراً من الدار البيضاء إلى الصويرة. ورغم تشييد مطار هناك فإن الطائرات لا تحط به إلا لماماً. لا أحد يكترث بالمدينة.

يذهب مختار إلى مدينته لحضور "مهرجان الصويرة" الذي تنظم هذه السنة دورته السادسة.

حشود بشرية بدأت تتدفق نحو المدينة التي تقع على المحيط الأطلسي جنوب الدار البيضاء لتعيش مع ايقاعات مغربية وعالمية. هي بالفعل "حشود" تأتي من داخل وخارج المغرب إلى هذه المدينة في إطار مهرجانها الذي سيفتتح الخميس المقبل تحت شعار "موسيقى كناوة، موسيقى العالم".

يتجول مختار في شوارع المدينة التي استعدت للمهرجان. إنها أيام الرواج كما يقول. الفنادق تكتظ ملء طاقتها بضيوف المهرجان. المطاعم والمقاهي تسهر حتى مطلع الفجر. الناس تعيش مهرجاناً للفرح حتى قبل أن يبدأ المهرجان.

في الأمسيات يتجول مختار مثل غيره من شبان المدينة في "ساحة مولاي الحسن". المدينة مزدحمة إلى حد أنك لو نثرت ملحاً لبقي فوق الرؤوس.

في ساحة مفتوحة على الرياح والبحر ستنظم أهم سهرات مهرجان موسيقى كناوة والعالم الناس، وخاصة الشباب جاءوا ليستمعوا ويسهروا مع الايقاعات الموسيقية المغربية والغربية.

خلال أيام المهرجان يردد الشباب الأغاني، يرقصون، يطلقون صيحات الإعجاب. وعندما يسقط الفجر بغتة وهم في غفلة من أمره يتفرقون. بعضهم ينام في الساحة. بل قل إنهم يغفون حتى يتسلل ضوء النهار. في الصباح يتجولون في أزقة المدينة القديمة. مختار وأقرانه يعيدون اكتشاف مدينة خرجت من غيبوبتها.

نساء الصويرة يستعدن لأيام المهرجان. يجلسن في ساحات المدينة يرسمن أشكالاً من الحناء على أذرع وسيقان الصبايا والفتيات. بعض الشبان يضفرون شعورهم كما كان يفعل الهيبيون عندما اكتسح أولئك الشباب الحفاة الرافضون لقيم المجتمعات الغربية العالم في الستينات وكان للصويرة نصيب كبير من تلك الظاهرة. لعلهم يتذكرون. ظاهرة أصبحت تاريخاً.

في شوارع الصويرة القديمة يرتفع صوت "المعلم محمود غينيا" وآخرون من فناني موسيقى كناوة. أولئك الذين يطلق عليهم "المعلمون". محمود غينيا وهو واحد من اشهر مطربي موسيقى كناوة، نغماته حزينة وكلماته ممزوجة بألفاظ أفريقية ورنات الهجهوج كأنها تقول "لا تخفي ما فعلت بك الأشواق وأشرح هواك فكلنا عشاق".

في أزقة المدينة ورغم الزحام الخانق الناس تمشي وتمشي، تشتري الأشرطة والأقراص المدمجة وتسجيلات السنة الماضية في انتظار مهرجان هذه السنة.

الصويرة مدينة تعيش وتقتات من البحر لذلك لا ينسى مختار أن يدلف جهة البحر ليأكل السمك المشوي على الفحم. كثيرون مثل مختار يتجهون في العصر نحو ميناء المدينة. هناك نصب باعة السمك المشوي خيامهم. يقدمون للزبناء أسماكا طازجة خرجت للتو من البحر، من شتى الأصناف، سمك موسى، سمك إبراهيم، الروبيان، الرخويات.... وسمك السمك.

قرب الميناء بحارة أعيتهم أمواج البحر يعملون في تنظيف السمك. تحوم فوقهم طيور النورس البيضاء. هذه الطيور تكاد تحط فوق رؤوس الزبناء. الكل مطمئن في الصويرة حتى الطيور.

داخل الميناء تصل المراكب عصراً تحمل أنواعاً مختلفة من غلة البحر.

البحارة بدت عليهم آثار السهر فوق مراكبهم طوال الليل. يخرجون عند المغيب ويعودون عصر اليوم التالي. أرزاقهم تحت الماء. يدخنون سجائر رخيصة الثمن وفي عيونهم خطوط احمرار من فرط التعب.

نصب المنظمون المسارح في جميع أركان المدينة. المدينة تراهن على استعادة مجد غابر. واستعادة سياحها أيضاً.

يقف أندري ازولاي، مستشار العاهل المغربي الملك محمد السادس ورئيس جمعية "الصويرة موغادور" على جميع التفاصيل بنفسه. يتجول في الساحات والأزقة ليتأكد من أن كل شيء يسير على ما يرام. يتمشى بقامته المديدة في شوارع المدينة، يلقي التحية على الناس وحين نسأله عن كيف جاءت البدايات يقول "بداية القصة كانت مع كتاب كتبته زوجتي كاتيا صدر عام 1989 حول الصويرة بعنوان "الصويرة موغادور عطر الطفولة" ذلك الكتاب وجد إقبالاً وجعل الصويرة تعود إلى صدارة اهتمامتنا كأسرة صغيرة، وتولدت فكرة مؤداها كيف يمكن إعادة إحياء هذه المدينة التي كانت في حالة موات. مدينة دخلت في حالة غيبوبة كاملة. المهم أن الكتاب والفكرة جاءا قبل تعييني مستشاراً. لذلك لم أعد إلى مدينتي لإقامة مهرجان كناوة، بل من أجل المساهمة في اخراجها من الغيبوبة.

ويضيف أزولاي وهو يدخل المدينة القديمة "هذه المدينة أعطت الكثير للمغرب وللتقاليد المغربية لذلك لم يكن بالإمكان قبول موتها من دون أن نفعل شيئاً، لذا قررنا أن نعمل ما في وسعنا لمنحها فرصة أن تنهض من جديد بمستقبل جديد هكذا بدأنا.

يجول أزولاي ببصره بعيدا ينبش ذاكرته" في أواخر الستينات هجر معظم السكان مدينتهم تركوها لأنها كانت تعيش أزمة حقيقية لا يوجد أمل أو مستقبل أو حتى جدوى للبقاء هنا وحتى بداية التسعينات كانت المدينة تحتضر.

< لكن لماذا الموسيقى؟

ـ عندما قررنا العمل لم تكن لدينا وسائل أو أموال لم يكن لدينا أي شيء. المدينة غنية بتاريخها وذاكرتها وجمالها إذن ماذا يمكن أن نفعل. هكذا قررنا استحضار تاريخ المدينة لنجعل المهرجان بمثابة منبر لنهضة الصويرة. المدينة تعج تاريخيا بالمصورين والتشكيليين والكتاب والموسيقيين والفنانين لذلك بدأنا بعمل ثقافي لعدم وجود استثمار أو تجارة أو الأمور التي تساهم في الرواج، وأسسنا جمعية "الصويرة موغادور" وقمنا بمبادرات اقتصادية من أجل تشييد البنيات التحتية للمدينة، ثم جاء مهرجان الموسيقى في عام 1998 في منتصف الطريق. لم تكن لدينا إلا الثقافة والناس والآثار لنمنح المدينة فرصة أن تحيي وتعيش.

ويعتقد أزولاي أن سبب بقاء المدينة مهملة عدة أحقاب هو أن أهلها لديهم كرامة تحول بينهم وبين طلب الإعانات ويشرح قائلاً "أهل الصويرة خجولون بطبعهم لذلك لا يطلبون المساعدات ربما كان ذلك خطأ وربما ساهم هذا السلوك في عدم تطويرالمدينة لكن أهل الصويرة هكذا معتزون بأنفسهم".

نسير مع أزولاي في دروب المدينة القديمة ثمة رواج تجاري واضح خاصة في حوانيت الصناعة التقليدية التي تبيع الملابس التقليدية ومصنوعات من خشب العرعار وأدوات الزينة والحلي المصنوعة من الفضة حين يسمع الملاحظة يقول "أشياء كثيرة تتغير في الصويرة"، ثم يضيف "ما قمنا به هو أننا أبقينا الأمل ولا بد أن أشكر أهل الصويرة الذين أبقوا هذا الأمل لأنهم يحبون مدينتهم. الناس الذين أعادوا الأمل للمدينة هم الذين أحبوها أو أولئك الذين أحبتهم الصويرة".

ويرى كذلك ان تجذر الفن في المدينة ساعد على عملية نفض غبار النسيان عنها "كل شيء سببه هو الفن أهل هذه المدينة هم عشاقها" هكذا يقول.

نتجه إلى حيث توجد أسوار المدينة قبالة البحر. ثمة مدافع قديمة لا تزال هناك تدل أن كثيرين حاولوا غزو الصويرة.

أناس كثر تجمعوا فوق القلعة يتأملون البحر في مده وجزره. آخرون يغنون ويمرحون.

يسرح أزولاي ببصره نحو البحر الممتد في اللانهاية الذي تتكسر أمواجه قرب أسوار المدينة القديمة هذا المكان بالنسبة له هو أفضل مكان في العالم. يقول "الناس يأتون كل مساء هنا ليتأملوا البحر ويتابعوا كيف يبتلع هذا البحر قرص الشمس هم الذين يحبون الصويرة. هذه المدنية تختار ناسها المغرمين بالفن والسحر والغموض، هنا يوجد ما يمكن أن نسميهم مجانين الصويرة، لهذا السبب أعتقد أن المدينة استهوت الهيبيين وأظن أنهم اختاروا الصويرة لأنهم في العمق فنانون يحبون الجمال والابداع الإنساني، وربما لأنهم كانوا ينشدون الحرية، هذا ليس أمراً سهلاً لأن الصويرة ليست مدينة سهلة، ليست مدينة سياحية فقط مثل مدن أخرى بل هي منغرسة في تربتها، وتعتز بتاريخها، إنها مدينة تاريخ حقيقي ومستقبلها مثل ماضيها يوجد خلف أسوارها وهذه بالضبط هي فلسفة المهرجان".

يتذكر أزولاي "الناس لا تزال تحب شرب الشاي وهي تتأمل الغروب وهذا ما يفسر كيف كان أهلها يقايضون الماء بالشاي مع البواخر التي تزور الميناء في زمن مضى، وأول معمل لتصنيع السكر شيد في عهد السعديين ولا تزال أطلاله ماثلة إلى اليوم.

قبل أن نترك أزولاي يتأمل شمس الصويرة تسقط خلف الأفق سألته: ما هي الخلاصات التي خرجت بها بعد خمس دورات من المهرجان وما هو جديد هذا العام؟

ـ المهرجان عمل للتمازج. هناك سحر التمازج الذي جعل الناس قريبين من بعضهم البعض، متحدون بدون فوارق ولعله يعطي الناس هذا الانطباع لأنه مفتوح للجميع، الناس يشعرون أنهم أحرار ومتساوون، أما الجديد فهو مشاركة جميع "معلمي" موسيقى كناوة في الصويرة في مهرجان هذه السنة.

< هل لديكم صعوبات؟

ـ لدينا مشاكل تمويل. الأمر ليس سهلاً. المهرجان مفتوح لكل الناس وحضور السهرات مجاناً وبدون بطاقات. نريد أن يبقى المهرجان مفتوحاً لأكبر عدد من الحضور. المغاربة يأتون من طنجة والداخلة ومن وجدة وأغادير ومراكش وتطوان. روح الصويرة هي التي جعلت كل ذلك ممكناً.

تركنا أندري ازولاي هناك قرب السور.

ليل الصويرة يزحف وصياح الشباب يتعالى في الأزقة

كناوة.. يا كناوة... الكناوي... يا الكناوي

العالم سيكون هنا. ثمة شيء مؤكد أن للموسيقى قوتها وجاذبيتها

الناس هنا تنتظر الخميس بفارغ الصبر

غداً تعود المباهج... والأحزان أيضا