«طيارة من ورق» الفيلم الحائز جائزة الأسد الفضي

«هدوء نسبي» للنضال الحربي و«حرب نساء» على غياب الرجل

TT

ريبورتاج في التلفزيون السوري عن الجولان اذهل المخرجة وكاتبة القصة والسيناريو اللبنانية رندة الشهال صباغ، فقصدت مكان الريبورتاج وبدأت تنسج حكاية فيلمها «طيارة من ورق» الذي حصد جائزة «الاسد الفضي» في مهرجان البندقية السينمائي لهذا العام.

موضوع الفيلم يتمحور حول حكاية بسيطة مؤلفة باسلوب متأرجح بين السخرية الواقفة على حد السكين والوقائع التي تصنع تفاصيل حياة يومية لمنطقة يمزقها الاحتلال الاسرائيلي من دون ان يلغيها.

وبساطة الحكاية لا تعني سهولتها على الاطلاق، فهي صعبة لمن يريد ان يقرأ ابعاد الحوارات الغنية التي لقحت الفيلم ببذور القضية المطروحة لصمود دروز الجولان المحتل، مع ان هذا الصمود اقتصر على رؤية مسالمة، وإنْ واعية، للمعاناة الناتجة عن الاحتلال، بعد ان تعمدت المخرجة تحويل مجرى الغضب البشري فيها من النضال الحربي، الذي ربما لم يعد مقبولاً في مجتمعات العالم الاول، الى القضايا الحياتية المتعلقة بالعرض والشرف الرفيع الذي لا يسلم من اذى النميمة العاجزة في مجتمعنا العربي المشلول تطوره، وبالتأكيد ليس بسبب الاجتياح الاسرائيلي فقط.

تترك المخرجة تسلسل احداث الحكاية البسيطة للفيلم الى اطفال يطلون على عالم الكبار حاملين سلفاً اثقالهم لكنهم يتسلحون بطفولتهم، لحدسهم انها تمنحهم مقومات حمايتهم، وان لها القدرة على الانتقال كالوباء المحبب الى الكبار العاجزين عن التعامل مع الاحداث بنضج، لان النضج سيحرضهم على غير هذا الصمود المسالم، ليبقى المجتمع الدرزي الجولاني وتسلسل احداث الفيلم مرهونين بالرياح التي تدفع الطائرة الورقية عبر الحدود.

وتبني رندة الشهال صباغ مستويات السرد السينمائي للفيلم وفق ثلاثة عناصر هي:

اولاً: العلاقات الانسانية بين دروز الجولان، الذين لم يتمكن الاحتلال الاسرائيلي من التفريق بينهم او كسر تقاليدهم، فبقوا اقارب واصدقاء وجيران، رغم السلك الشائك وابراج المراقبة والمعبر المقفل الا لاصحاب التصاريح وحاملي النعوش.

ثانياً: حضور المرأة الطاغي قابل غياب الرجل الذي الغي دوره في ظل الاحتلال الاسرائيلي، وفي الجهتين المتقابلتين من السلك الشائك. فهو في المناطق غير المحتلة مغيب، وكأنه رمز تطبق سلطته بالتوارث وحضوره غير فعال الا في لحظات التمظهر الاجتماعي السطحي، والقرارات التي يتخذها الرجل تنسجها النساء في الخفاء، ثم تتولى ترويجها وتجميلها وتمريرها وترغيب اصحاب الشأن بها. والرجل في المناطق المحتلة هو فاقد ذكورته، ضعيف مغلوب على امره، كما هو وضع العريس سامي الذي ترفضه عروسه وقريبته لميا القادمة من المنطقة الاخرى، فتعلن له كرهها واحتقارها، ويقبل وينصاع لتسهيل امر عودتها الى مسقط رأسها. او كما هو واقع الجندي العربي في الجيش الاسرائيلي الذي يؤدي دوره زياد الرحباني، فهو لا يقدر على اقامة علاقة مع يهودية من احدى دول اوروبا الشرقية، حيث يفترض ان تكون المرأة سهلة، كما هي الفكرة الشائعة في بلادنا.

وقدرة المرأة على التأقلم مع السلك الشائك ومتابعة تواصلها مع اقاربها شكلت مظهراً من مظاهر حضورها الطاغي، فالمعبر في الفيلم صالون استقبال في الهواء الطلق، ادواته نظارات ومكبرات صوت، واحاديثه تتطرق الى الحميميات من دون وجل او خفر او اهتمام بالرجل القابع حارساً وناطوراً للكلام المتبادل بين النسوة والمطوع وفق الاحتياجات، فلا ضرر من ان تسعى الخالة لتزويج ابنة اختها التي «بلغت» مبلغ الكبار. ولا ضير في تبادل الرأي حول المشكلات العائلية او ذكريات الطفولة من فوق السياج، ولاخوف من انتقاد النساء على المعبر للاحتلال الاسرائيلي وشتمه ورفضه وجوداً ولغة رغم الانغماس فيه الى درجة قبول التجنيد الاجباري للشباب الصامتين.

ثالثاً: علاقة الحب المستحيل بين لمياء العروس الطالعة بالكاد من طفولتها والعابها واسئلتها الفضولية عن حياة الكبار مع الجندي المرابط عند عتبة مراهقته، والمستسلم في برج المراقبة لاحلامه، يحركها بالنظارات غير عابئ بنصائح رفيقه في المراقبة زياد الرحباني، او تهديدات رئيسه الذي يصر على افهامه ان الناس المقيمين في القرية خلف السياج هم اعداء ولو كانوا اقارب واولاد عم، مشدداً على ان الدرزي المقيم في اسرائيل هو اسرائيلي، حتى لو كان عربياً. الا ان كل هذه الممنوعات والنصائح لم تحل دون العلاقة المتأرجحة بين الحلم والرغبة وبين الخيال والحقيقة، والتي تسيطر على خيوطها العروس الطفلة بالتحدي والرفض الفطري لعريس زفت اليه غيابياً بعد تعارف عبر شرائط الفيديو التي تبادلتها العائلة، لتنساق الى انوثتها المتشكلة وفق تشوهات تسببت بها عادات متزمتة في المجتمع الدرزي الريفي المغلق والظروف القاهرة للاحتلال التي حولت القريب والجار وابن الطائفة الى عدو اسرائيلي رغم صلات النسب والقربى واللغة والدين.

وبالطبع تتداخل في هذه المحاور الثلاثة عناصر متعددة تقنية وسردية وجمالية لجعل «طيارة من ورق» عملاً خاصاً جديراً بالجائزة العالمية التي تصر الكاتبة المخرجة على انها حصلت عليها بطريق الصدفة، كما اوضحت لـ«الشرق الأوسط»، لان التوقيت كان مناسباً، فموعد المهرجان جاء متزامناً مع انجاز الفيلم واطلاع اللجنة المختصة عليه وادراجه في افلام المسابقة.

ومن العناصر المجملة الترويجية للفيلم يأتي حضور زياد الرحباني المميز والخاص. وكأنه منفصل عن العمل ككل، سواء لجهة مستوى تمثيله قياساً الى الآخرين او لجهة الحوار «الرحباني» جداً والصالح لان يكون في اي من مسرحياته او اغنياته. فقد بقي حضور زياد مستقلاً عن عملية السرد السينمائي وعن متن النص بحيث يمكن الغاء دوره من دون ان يخسر هذا المتن مقوماته البنيوية، لكن قدرة رندة الشهال صباغ على اقناع زياد بهذا الدور السينمائي جاءت لصالح العمل.

اما العناصر المثيرة للسؤال والمتناقضة مع الجو المتزمت للقرية الدرزية، فهي تنعكس من خلال الحوارات الجريئة عن الجنس التي يتبادلها الاولاد والفتيات، كل على حدة وفي مجتمعه المنغلق، وكأن المخرجة والكاتبة حاولت من خلال هذه الحوارات تعويض النقص الناتج عن بذور الثورة الكافية في هذا المجتمع والعاجزة عن التفجر عبر الانصراف البديهي والغرائزي للافراد الى فهم عالم الجنس الملتبس لدى النساء الرافضات تسليعهن (العمة الرافضة عنوستها جوليا قصار والعروس الرافضة مصادرة طفولتها وقرارها فلافيا بشارة) او لدى الرجال الرافضين الاعتراف بعجزهم لان الاحتلال تسبب لهم باخصاء معنوي، اذ صادر حريتهم وقراراتهم. وربما يبدو استخدام البعد الجنسي في هذا المجال مألوفاً وتقليدياً مبالغاً به بعض الشيء. وكأن ما يشفع له هو حصول الفيلم على الجائزة العالمية، والا لكان مقص الرقيب بالانتظار على غرار ما يحصل في معظم الافلام التي تحاول توظيف الجرأة في طرح قضايا حساسة تعاني منها مجتمعاتنا العربية.

وفي خلاصة القراءة لفيلم «طيارة من ورق» لا يمكن الا ابداء الاعجاب بالتقنية العالية التي اسفرت عن تقديم عمل متكامل الى جمهور متعطش لهذا المستوى في الاضاءة والصوت والمشهدية والتمثيل. لكن هذا الاعجاب يشوبه بعض من الشك حول مدى قولبة همومنا في لبوس ما يريده الآخرون لنا، فالمخرجة والكاتبة والسيناريست رندة الشهال صباغ قالت «انها ومنذ ولادتها تقاتل على الجبهة، ولا تعتقد انها سترى نهاية لهذه الجبهة، وتأمل ان يرى اولادها هذه النهاية ويبرعم لديها يقين بذلك». نكتشف ان عملها الفائز بالجائزة يحوّل الجبهة الى مكان يسوده «هدوء نسبي» مرشح للاستمرار لان الاسلحة المقاومة في طور التغيير، ربما لن تعود متفجرة او دامية، وربما المرحلة المقبلة تتطلب هذا التغيير. ولكن الاكيد ان الطائرة الورقية التي تتلاعب بها الرياح على السلك الشائك تحمل اسئلة بقيت من دون اجوبة كغصة في الحلق.