الخيال قتل الواقعية في مسلسلات رمضان التلفزيونية

المسلسلات أصبحت هي الملجأ والمصير لعدد كبير من العاملين بالسينما المصرية بعد أزمة حلول الوجوه الجديدة مكان النجوم

TT

عرضت على الشاشات العربية منذ بداية شهر رمضان اكبر مجموعة من المسلسلات التلفزيونية المصرية الحديثة التي انتجت خصيصا من اجل العرض في هذا الشهر الكريم، اكثر من 20 مسلسلا مصريا جديدا يراها ملايين المشاهدين بعد ان اصبح هذا الشهر بمثابة مهرجان سنوي عربي للدراما التلفزيونية تتبارى فيه قرائح وابداعات العاملين العرب في هذا الحقل.

ومن المهم هنا ونحن «نقع» تحت دائرة المشاهدة وتأثيرها علينا بما تتضمنه من مؤثرات الصوت والصورة والتكنيك والاداء، وايضا الحضور الطاغي لنجوم السينما الذين كانوا منذ سنوات في ابراجهم العاجية بعيدا عن ملعب الجماهير العريضة وشاشاتهم المنزلية، من المهم ان نتوقف لتحليل وتفسير ما يحدث على ساحة الدراما التلفزيونية واسعة الانتشار هذا وسر صعودها في وقت تنحسر فيه السينما المصرية والعربية عموما وتمر بأزمة مزمنة.

تبدو تلك الازمة السينمائية سببا هاما من اسباب تحريك العملية الانتاجية التلفزيونية، فقد اصبحت المسلسلات هي الملجأ والمصير لعدد كبير من العاملين بالسينما المصرية بعد ازمة الاستبدال الشهيرة التي تم بمقتضاها استبدال جيل جديد من السينمائيين بالاجيال السابقة عليه، وايضا بعد ان ضيق المنتجون في هامش الابداع في السينما الجديدة الى ادنى حد فوجد اغلب السينمائيين انفسهم بلا عمل وبالتالي اتجهوا الى التلفزيون. وهذا الوصف للحالة المصرية يوازيه وصف اخر للحالة السورية حيث يتوقف الانتاج السينمائي عند فيلم واحد سنويا أو اثنين على اكثر تقدير وفي وقت تتنامى فيه اعداد المبدعين من كتاب ومخرجين وفنيين وممثلين فيصبح الملجأ الوحيد هو دراما التلفزيون. من هنا احتلت هذه الدراما موقع الصدارة في الانتاج المرئي العربي، واقتنصت اغلب الاموال العربية التي تضخ في هذا المجال.

السبب الثاني لهذه «الثورة الدرامية التليفزيونية» هو تكدس وتعدد هياكل انتاجية قوية في مصر وسورية والخليج ونموها في اتجاه انشاء وصناعة منتج مطلوب وعليه طلب دائم بلغة السوق، وفي مصر تحديدا بدأت هذه الهياكل الانتاجية تصعد منذ عصر الانفتاح الاقتصادي في السبعينات بإنشاء شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات لتدخل ساحة الانتاج التلفزيوني بعيدا عن بيروقراطية اللوائح والقوانين في التليفزيون المصري، وبعدها بعقد من الزمن انشأ قطاع الانتاج داخل التلفزيون ليقدم اعمالا ذات ميزانيات وامكانيات كبيرة مثل افلام «الطريق الى ايلات» و«ناصر 56» بجانب المسلسلات التي اكدت شعبية الدراما التلفزيونية «ليالي الحلمية وغيرها»، ثم انشئت مدينة الانتاج الاعلامي بعد عقد آخر من الزمن بامكانيات جبارة منها ثمانية عشر ستديو للتصوير ومناطق تصوير مفتوحة، وقد تحولت العملية الانتاجية بفضل هذه الهياكل من هدفها الاول وهو تقديم خدمة للمشاهدين الى هدف آخر هو تسويق الاعمال وادارتها من اجل المزيد والمزيد، وهو هدف الهياكل الانتاجية ايضا في سورية ولبنان والخلية والتي اصبحت تتعاون معا في انتاج الدراما التلفزيونية، كما تتعاون شركات الخليج مع الكيانات الانتاجية في مصر والتي استعانت اصلا بمجموعة من الشركات الخاصة المصرية لتنفيذ الاعمال بنظام المنتج المنفذ الذي تحول الى المنتج المشارك الان من اجل تنفيذ خطط الانتاج الطموحة.

السبب الثالث لنمو وازدهار صناعة المسلسل التلفزيوني العربي هو الحالة الجماهيرية العربية التي الفت الكسل في البحث عن المنتج الثقافي، والتي تستهل الجلوس امام الشاشة الصغيرة بدلا من فتح كتاب لقراءته أو الذهاب الى المسرح أو دار عرض سينمائي «ان وجد فأغلب عروض السينما والمسارح تتوقف في رمضان»، لكن هذا لم يكن الحال منذ عشرين عاما بالتحديد في مصر لكن ارتباك التنظيم اليومي للحياة «بما فيها ازمة المرور المزمنة» والازمة الاقتصادية جعل اغلب الناس تفضل البيت وفتح التليفزيون بدلا عن كل شيء آخر، غير ان هذا من ناحية اخرى يعد دليل اتهام لكل المبدعين في المجالات الاخرى والذين لا يطرحون غالبا اعمالا فنية لها جاذبيتها الفائقة التي تنتزع الناس من امام التلفزيون ومسلسلاته، ومن هنا حصدت هذه المسلسلات مشاهدين بالملايين وليس العشرات من المحيط الى الخليج، ولعل التظاهرة الواسعة التي شهدها عرض مسلسل «الحاج متولي» ورد الفعل المختلف عليه والاهتمام به اعلاميا جاء ليقدم صورة عن حالة المشاهدة العربية التي تحتاج لمزيد من الابحاث والدراسات السبب الرابع لازدهار ونمو صناعة المسلسل التلفزيوني العربي وانتشاره هو هجرة نجوم السينما اليه، وهي ان كانت هجرة شبه اجبارية لهؤلاء النجوم الذين اهملتهم السينما اليوم أو طردتهم الا في القليل النادر من الاعمال.

الا ان اطلالة هؤلاء على شاشة التلفزيون لا تبنى على الفرضية السابقة وانما تحاط عادة بهالة دعائية تظهر تلك المحطة أو الشركة التي استعانت بهم وكأنها حققت نصرا باجتذابهم الى جمهور الشاشة الصغيرة، وبالطبع فإن هذا وان كان يفيد تسويقيا ودعائيا لكل من النجم والشركة معا، الا انه في حقيقة الامر يفيد في رفع الامكانيات التي يحصل عليها المسلسل نفسه انتاجيا، وحيث يبدو سطوة النجم ونفوذه قادران على تذليل اغلب العقبات التي تواجه الاعمال التي تفتقد النجوم، والنظرة الى الشاشة وما تعرضه تظهر هذا فالامكانيات التي حصلت عليها مسلسلات مثل «العمة نور» و«الليل وآخره» و«تعالى نحلم ببكره» و«ابيض * ابيض» و«رجل الاقدار» و«مسألة مبدأ»، تفوق مسلسلات كثيرة تبدو اكثر فقرا في الديكورات والاكسسوار والمجاميع واماكن التصوير الخارجي...الخ، اما السبب الخامس والاخير لازدهار ونمو صناعة المسلسل التلفزيوني العربي فهو التنافس نفسه، التنافس بين المسلسل المصري والسوري واتساع مساحات الرؤية لدخول اعمال اخرى في الصورة كالاعمال السعودية والكويتية والتونسية والاماراتية ايضا التنافس على اقتناص الاعمال الجيدة من قبل القنوات العربية الكثيرة خصوصا الفضائية والخاصة، وايضا التنافس على الحصول للجمهور العريض من قبل هؤلاء النجوم الذين عرفوا معنى النجاح الجماهيري طويلا في السينما ثم فقدوه قبل ان يعيدوا حساباتهم ويتجهون للتلفزيون.

فلاول مرة تطرح نبيلة عبيد نفسها على الشاشة الصغيرة هذا العام من خلال مسلسل «العمة نور»، بينما تتفاوض ابنة جيلها نادية الجندي مع بعض صناع المسلسلات لتدخل الدائرة في العام القادم، ومن نفس الجيل تقف ميرفت امين كبطلة في مسلسلين هما «ملفات سرية» و«قمر سبتمبر»، اما الجيل التالي لهؤلاء النجمات فقد حسم امره قبلهن مثل يسرا التي نراها في مسلسل «ملك روحي» الذي مثلت قبله في رمضان الماضي «اين قلبي» واعلنت انها سوف ترتاح عامان لكن الاغراء اكبر، اما ليلى علوي فتعود بعد عامين على «حديث الصباح والمساء» مسلسلها الاخير لتقدم «تعالى نحلم ببكره» مقررة ايضا التجاوز عن «فترة الراحة»، كما تعود الهام شاهين ابنة نفس الجيل، بكل قوتها غير عابئة بقضية الابتعاد من اجل الاشتياق الجماهيري في تقديم ثلاثة اعمال تتنافس معا الان «مسألة مبدأ، نجمة الجماهير والامبراطور»، في الوقت الذي تكتفي فيه هالة صدقي وسماح انور بمسلسل «رجل من زمن العولمة»، وبذلك يدخل جيل النجمات السابق على سينما الشباب الان تحت دائرة التلفزيون مثله مثل جيل الرجال، محمود ياسين بطل «العصيان» و«ثورة الحريم» ونور الشريف بطل «رجل الاقدار» وحسين فهمي بطل «تعالي نحلم ببكره والامبراطور»، وكمال الشناوي بطل «اخر المشوار»، والخلاصة ان هذه الاسماء التي صنعت السينما في وقت ازدهارها وجدت نفسها في حالة من انعدام الوزن مع نضج التجربة والخبرة وتغير الظروف، وكان التلفزيون واعماله هو الحل تماما كما حدث مع مخرجون مهمون في السينما دخلوا الى هذا العالم من خلال الاعمال المعروضة الآن، هم خيري بشارة ومحمد خان وعلي عبد الخالق ونادر جلال ومؤلفون سينمائيون مثل محمود أبو زيد وبشير الديك.

والحديث عن هؤلاء لا يكتمل بدون الاشارة الى نجوم التلفزيون اساسا، هؤلاء الذين صنعوا تاريخهم الفني ونجوميتهم من خلال الشاشة الصغيرة وليس الكبيرة، اسماء مثل صلاح السعدني ويحيى الفخراني وممدوح عبد العليم وهشام سليم وهادي الجيار وعزت أبو عوف واحمد بدير واحمد خليل، وابراهيم يسري ومن النجمات عبله كامل وفردوس عبد الحميد ودلال عبد العزيز وغادة عبد الرازق ونهال عنبر وفادية عبد الغني وسوسن بدر، هذه ابرز الاسماء وليس عليها نفس الحقيقة صنع التلفزيون عبر مسلسلات اجيالا من الممثلين والممثلات الذين اصبح لهم وجوداً قوياً ورصيداً جماهيري يعتد به، وفي وسطهم يحاول نجوم السينما السباحة والانسجام في نوع جديد من التحالف الذي لا يختلف كثيرا عن التحالفات الاخرى الكثيرة في حياتنا، من هنا ابتلعت المسلسلات التلفزيونية سوق العرض العربي لسهولة توزيعها وانتشارها، وايضا خلوها من ممغصات المشاهد والافكار التي تقلق الرقابة والرقباء في عالمنا العربي، صحيح ان احداث اغلب مسلسلات هذا العام مستمدة من وقائع حقيقية وقضايا كبرى حدثت في مصر في السنوات الاخيرة، لكن هذه القضايا فيها وقائع اكثر اثارة مما قدم عنها في المسلسلات، الفارق الوحيد والاهم ان عدد القراء العرب للصحافة المكتوبة ليسوا في كثرة المشاهدين العرب للمسلسلات المأخوذة عنها، وكأنما يرفض المشاهد العربي ان يعرف الحقيقة بقسوتها ويفضلها مهذبة ملونة ومن خلال فلتر يجملها، وربما كان له بعض العذر فيما يراه منذ سنوات على ما يحدث في العراق وفلسطين قد يكون اكثر من طاقته على الاحتمال.