هل أصبحت القدرة على التذوق الفني في العالم العربي عملية «نخبوية»؟

لولوة الحمود

TT

من المؤسف أن نلاحظ أن القدرة على التذوق الفني في عالمنا العربي اليوم أصبحت عملية نخبوية ولها «ناسها» والمقصود بالتذوق هنا هو القدرة على النقد التي تدل على الاستيعاب ومن ثم التفاعل والتواصل.

وبما أن الفن ليس مجرد لوحة في متحف أو معزوفة موسيقية فحسب بل أنه، وخصوصاً التطبيقي منه، أصبح متغلغلاً في حياتنا اليومية الآن أكثر من أي وقتٍ مضى ولا يمكن تفاديه فقد أصبح الشارع معرضاً ضخما لإبداعات كثيرة فلا بد أن نعي مدى أهمية قراءة واستيعاب اللغة «المرئية» المتمثلة بكل مانراه حولنا اليوم سواء كان ذلك إعلاناً في الشارع أو تصميماً لمجلة أو شعاراً لمؤسسة ما، ولا أعلم إن كان هناك الكثير من الناس يجدون متعة كبيرة (كما هو حالي) في قراءة هذه الرسائل البصرية المتناثره حولنا في كل مكان، ولكني بعد متابعة وقراءة لما يخص تصميم الجرافك وبالأخص في مجال تصميم الشعارات سواء الخاصة بمؤسسات تجارية أو سياسية أو خيرية في عالمنا العربي والإسلامي، أتساءل ماذا حدث للذوق العام في عالمنا؟ واركز هنا على الشعارات التي يرى الكثير ممن تحدثت معهم بحكم عملي في هذا المجال، بأنها سهلة الصنع ويمكن لأي أحد تنفيذها وأنها عملية غير صعبة، حتى أن البعض يأخذون جزءاً من شعار موجوداً أصلاً ويمزجونه مع جزء آخر من شعار آخر ليكونوا شعاراً خاصاً بهم بغض النظر عن المعاني المختلطة في «التصميم» النهائي، ناهيك من إساءة استخدام الألوان. إن التصميم الجيد لشعار ما ليس لعبة شطارة باستخدام الكمبيوتر بل هي القدرة على تنفيذ فكرة ما بأقل قدر ممكن من الأشكال والألوان وتوظيفها أفضل توظيف كالبلاغة في اللغة. فحتى ينجح شعار ما لا بد أن يعامل كاللغة التي تأخذنا من نقطة (أ) إلى نقطة (ب) وبهذا لابد من تحديد الهدف المبتغى مع اعتبار أن المتلقي ذكي ولماح وبهذا يكون خير الكلام ما قل ودل ببساطة وذكاء وليس هناك أبلغ من إبن المقفع عندما سئل عن البلاغة فوصفها بقوله «هي الإيجاز من غير عجز والإطناب في غير خطل، وهي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها». التذوق الفني بشكل عام لايمكن أن يكون بلا ثقافة وإلمام بالحضارات الإنسانية وعلى الرغم من أن حضارتنا الإسلامية استوعبت علوم وأدب وفنون حضارات أخرى، ويبدو ذلك واضحاً في فن العمارة الإسلامية كما في فن الخط العربي، وكانت من أكثر الحضارات قدرة على التعبير الفني ببساطة وتجريد متناهيين. الا اننا أجدنا تسطيح الفن (كأي شيء آخر) ليكون مرهونا ومحدوداً بالجمال وأغفلنا أهمية الأداء الوظيفي له فأفسد سوء الذوق الجمال والوظيفة معاً وأشيد هنا بمحاولات «التبصير» التي قام بها الفنان المصري محيي الدين اللباد صاحب كتاب (لغة بدون كلمات) و (تي شرت) وغيرهم من الكتب. وأهمهم هنا كتاب (نظر) الذي لفت النظر لأهمية تثقيف البصر وتوعية القارئ بالفنون البصرية وهو مجموعة مقالات ودراسة تحليلية عن الثقافة البصرية في عالمنا والتي لايمكن فصلها عن أي مجال من مجالات الحياة. إن فكرة الشعارات ليست مقتصرةً على العصر الحديث بل إن مانراه اليوم في أحدث الوسائل التقنية إنما هو تراكمات إرث إنساني كامل ويمكننا تتبعها منذ العصور البدائية في جدران الكهوف عندما شعر الإنسان بحاجة ملحة للتواصل من خلال لغة بصرية ولم يكتف بلغة الكلام المسموع فكانت أول الرموز المسجلة تلك التي تتعلق بالعبادة والآلهة وأصبح هناك إشارات ورموز لجماعات دينية وعرقية وغيرها تدل على انتماء الإنسان إليها كما يمكننا اعتبار اللغات الصورية القديمة كالسومرية والفرعونيه كأول أشكال الشعارات أما استخدام الشعار كعلامة تجارية فقد كان في القرن الثالث عشر واستخدمه الإغريق والرومان وهنا لا بد من التفريق بين عدد من المفاهيم وهم: شعار (Logo) وأيقونه (Icon)ورمز (symbol). وهي كلمات إغريقية الأصل، الأولى تعني (كلمة) والثانية تعني (صورة) والاثنين بالطبع يمكن أن يحملوا رموزاً والشعارات بمفهومها الحالي قد تحوي كلمة أو صورة أو الاثنين معاً.

واليوم تؤدي الشعارات وظائف عدة أهمها التعريف بالمؤسسة والإعلان عنها والتذكير بها ولهذا فلا بد أن يكون الشعار ذكياً ومن السهل معرفته وتذكره فهي الإنطباع الأول الذي لاينساه الناس ولابد أن يكون لغة مفهومة عالمياً. ويقول غريغوري توماس، وهو صاحب خبرة لأكثر من عشرين عاماً في مجال تصميم الشعارات وصاحب شركة غريغوري توماس للاستشارات في فن الجرافكس الحائزة جوائز عالمية في هذا المجال، في كتابه (كيف تصمم شعارات ورموزاً وأيقونات) «أن الشعار الناجح هو ذلك الذي يمكن للمتلقي التفاعل معه والذي يسمح لعقله باللعب معه لعبة ذكاء صغيرة». ويحدد توماس أهم النقاط التي يجب مراعاتها عند تصميم أي علامة أو رمز أو شعار وهي أن يكون ملحوظاً بين الكثير من التصميمات الأخرى وأن يكون سهل التطبيق في برامج الجرافكس المختلفة سواء كمبيوتر أو تلفزيون أو فاكس وأن يكون متميزاً وبسيطاً بحيث يمكن أن يتقبل عالمياً ومع مرور الزمن، كما أن الشعار الناجح لابد أن يكون خير تعبير عن طبيعة المؤسسة التي يعبر عنها.

إن أفضل مثال للشعار الناجح هو شعار شركة (نايكي) للملابس الرياضية فيكفينا أن نرى تلك العلامة البسيطة المحملة بالرموز الإيجابية لنتذكر الشركة الضخمة وراءه بدون الحاجة لقراءة اسمها. وقد لايعلم الكثيرون أن العلامه المستخدمة في شعار نايكي مستوحاة من شكل جناح تمثال لآلهة النصر الإغريقية (نايكي) والموجود في متحف اللوفر في باريس، وقد صممت الشعار طالبة أمريكية هي كارولين ديفدسون في عام 1971 وكان أجرها عليه آنذاك خمسة وثلاثين دولاراً فقط. وقد أصبح ذلك الشعار رمزاً للشباب والحيوية والحركة وأسهم بتأثيره على نجاح الشركة وتأثيرها على الرأي العام بحيث أصبحت الرياضَة وخصوصاً رياضة الجري سمة من سمات المجتمع الأميركي.

إن للرسائل البصرية قدرة هائلة في التأثير على المتلقي سواء كان مواطناً أو مستهلكاً أو صاحب شركة تجارية ولابد من استخدامها استخداماً حسناً ولابد من العودة إلى الوراء والنظر قليلاً في لغتنا البصرية ومحاولة تنقيتها حتى لانكون محاطين «بالتلوث البصري» الذي نراه الآن ولا أريد أن أكون ظالمة في حكمي، فهناك تصاميم رائعة في عالمنا العربي حالياً ولكني أتمنى أن لاتكون بالندرة التي هي عليها الآن. ولابد أن نعي أهميتها وجديتها وبهذا فلابد أن يكون العاملون في مجال تصميم الجرافكس وخصوصاً تصميم الشعارات على قدر كبير من الدراية والمسؤولية، فعلى الرغم من وجود هامش كبير للحرية الإبداعية إلا أن هذا المجال بحاجة إلى قدر متوازن من العلم والفن وكذلك لابد أن يكون الفنان موضوعياً وليس معبراً عن أحاسيسه الشخصية بل حاملاً لمسؤولية كبيرة تتمثل بالمستقبل المهني والتجاري لمؤسسة ما. إننا في عالمنا العربي لاتنقصنا المراجع للقيام بتصاميم ناجحة ويكفينا النظر إلى التصميمات المتمثلة في فن الخط العربي أو الزخرفة ومانراه من فنون عثمانية قد تكون من أنجح الشعارات في ذلك الوقت وليس المطلوب هنا إنجاز تصاميم نمطية ومستهلكة ولكن يمكننا العودة والاستيحاء منها ومن كل الحضارات الأخرى بدون أن يكون تقليداً أعمى بل بتمكن ودراية.

نحن اليوم بأشد الحاجة لاستخدام وسائل يمكننا بها التعبير عن أنفسنا ويكون لها دور في التأثير الإيجابي على مجتمعاتنا، فوسائل الوعظ والإرشاد المباشر لم تعد مجدية ولا بد من إيجاد مناهج تعليمية منذ الصغر تحفز على قراءة الرموز الموجودة في تراثنا الفني كما في تراث الحضارات الأخرى فهي المرحلة الأولى لإيجاد جيل مبدع قادر على التأثير الإيجابي باستخدامه للكلمة والصورة.