أجانب في هوليوود

حازم الجريان

TT

في سبتمبر (أيلول) 2003، وبعد خمسة أشهر من إقامة حفل أوسكار ذلك العام، طار الممثل الأميركي هاريسون فورد إلى شمال فرنسا ليسلم تمثال جائزة أوسكار «أفضل إخراج» للبولندي رومان بولنسكي عن فيلمه «عازف البيانو». كان ذلك بسبب أن بولنسكي لم يتمكن من الحضور لتسلم جائزته، فهو لا يستطيع الدخول إلى الولايات المتحدة الأميركية وإلا اعتقل بسبب هروبه قبل 26 عاما عندما اتهم بإقامة علاقة جنسية مع قاصر في الثالثة عشرة من عمرها. لكن رغم ذلك فقد وقف الحضور من مشاهير السينما الأميركية ومتنفذيها يصفقون لدقائق بعد إعلان الجائزة في تقليد هوليوودي كان دائما ولا يزال يرحب بالمقبلين من وراء البحار. حتى قبل أن تتعلم السينما أن تتكلم أو تغني، حينها وجد نمساوي مثل ايريك فون شتروهايم مكانه أمام الكاميرا وخلفها، في حين كان الإيطالي رودولف فالنتينو هو الرمزالأشهر لرومانسية السينما في العالم. وحين نقول هوليوود فربما لا نعني حرفيا ذلك الجزء الشهير من لوس أنجليس، فالكلمة في مدلولها العام أصبحت تدل على «حالة» السينما الأميركية الحديثة التي امتزجت فيها جرائم الإخوة كوين المستقلة مع «قنابل» سبيلبرغ الصيفية. سنتكلم هنا عن عدة تجارب أجنبية في هوليوود، متغاضين لبرهة عن أولئك المقبلين من الدول الناطقة بالانجليزية لأسباب واضحة.

حين نتكلم عن المخرجين الأجانب في هوليوود، فلا بد أن تأتي ألمانيا (والنسما ضمنيا) كمصدر كبير لتلك الأسماء، فالسينما الألمانية برزت كثيرا في العشرينات الصامتة من خلال «التعبيرية الألمانية» التي تأتي كأبرز وأول الاتجاهات الفنية في تاريخ السينما، ويبرز النمساوي فرتز لانغ بصفته أحد أهم رموزها الذين هربوا إلى هوليوود لأسباب سياسية.ولانغ كان رساما سابقا قبل دخوله السينما عام 1919 حيث عمل في ألمانيا لمدة 14 سنة قبل أن يهرب إلى أميركا عام 1934 إثر منع فيلمه «العهد الجديد للدكتور مابوز»، الذي يظهر فيه لانغ شرير الفيلم في النهاية يتلفظ ببروغاندا نازية، وهو ما جعل وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز يجتمع به محاولا شراءه بعرض منصب رئيس صناعة السينما الألمانية عليه. مثل هذه المشاكسات السياسية ليست غريبة على أفلام لانغ الأولى، التي تظهر فيها برلين ما بعد الحرب مهترئة ومتهالكة في ادانة مستمرة للحرب وللسياسة التي وراءها. وهي ادانة شخصية وحميمة حين نعرف أنه أصيب 3 مرات في الحرب العالمية الأولى. بعد قدومه إلى هوليوود لا يبدو أن لانغ استفاد كثيرا، ففي حين يجمع الكثير بأن لانغ قدم عدة أفلام ذات مستوى جيد: «المرأة في النافذة» و«الحرارة الكبيرة»، فإن أفلامه الأميركية تبدو دائما أقل مستوى وأهمية من نظيراتها الألمانية. وفي الخمسينيات يدرك لانغ، ولو متأخرا، بأن هوليوود ليست هي المكان الأفضل، فيعود لألمانيا مرة أخرى ليصنع فيلمين متوسطي المستوى قبل اعتزاله السينما تماما.

ورغم ذلك فإن أفلام لانغ في هوليوود تعتبر نجاحا نسبيا إذا ما قورنت بما قدمه الفرنسي جان رينوار، ثاني الكبار المقبلين لهوليوود. ورينوار، السينمائي الذي بالغ بعضهم في وصفه فقال بأنه «يبرر السينما»، هرب من الاجتياح النازي لبلاده فجاء إلى هوليوود وقدم فيها 6 أفلام بين عامي 1941 و1947، لم ينجح منها سوى فيلم «الجنوبي» عن عائلة فلاح في تكساس تصارع من أجل البقاء، وبسببه نال ترشيحه الوحيد لأوسكار أفضل مخرج، وهو ما يجعل التجربة الهوليوودية لرينوار مخيبة للآمال عندما نقارنها بأفلامه السابقة مثل «الوهم العظيم» و«قواعد اللعبة»، وتزداد هذه الخيبة لدى رينوار خاصة، إذ أن ذهابه لهوليوود كلفه خسارة تشجيع الفرنسيين ومؤازرتهم، الذين رأوا في رحيله هجرا لفرنسا أثناء فترة حرجة في تاريخها.

في الثلاثينات وضمن سيل المواهب المتدفقة التي هجرت ألمانيا بعد أن اعتلى النازيون سدة الحكم، يظهر بيلي وايلدر في المشهد السينمائي الأميركي بكل هدوء عام 1934، مبتدئا بكتابة عدة نصوص ناجحة جلبت له 3 ترشيحات أوسكار قبل أن يعهد له إخراج أول فيلم «الكبير والصغير» عام 1942. وتمثل تجربة وايلدر نجاحا باهرا للغاية، فقد استطاع أن يدلف إلى العقلية والثقافة الأميركية كما لم يفعل أجنبي آخر. واعتاد وايلدر أن يكتب أفلامه بنفسه وهو ما أعطى أفلامه صفة شخصية وحميمية لا تبدو موجودة مع مخرجين أجانب آخرين في هوليوود. لقد ترك في السينما الأميركية أثرا كبيرا على مستوى كتابة النصوص والحوارات، فجاءت نصوصه «لاذعة ومتقنة ومفخخة بالنكات»، كما جاء إخراجه مثيرا وديناميكيا على الدوام، سواء في رؤيته لهوليوود في «صانسيت بوليفارد»، في نظرته المتهكمة إلى متاعب موظف حكومي في «الشقة» أو حتى استعراضه لمجموعة من الجنود الأميركيين في معسكر نازي لأسرى الحرب في «ستالاغ 17».

وإذا كان ويلدر قد استقر في هوليود حتى وفاته، فإن مخرجا أوربيا آخر قدم إلى هوليوود منذ أواخر الستينات لم يستطع المكوث طويلا. إنه البولندي رومان بولنسكي الذي تعرضنا له في بداية المقال، قدم عدة أفلام ناجحة في بولندا ثم فيلمين في انجلترا، بعدها قدم إلى هوليوود عام 1968 ليصنع فيلمه الأميركي الأول «طفل روزماري»، عن رعب وبارانويا امرأة نيويوركية حامل، وبولنسكي الذي برع كثيرا في سينما «الضحية» التي يطالها الرعب في «طفل روزماري» أو البارانويا في «مسعور» أو العزلة في «نفور» أو الأهوال المفزعة للدكتاتورية في «موت العذراء» هو نفسه ضحية للنازية التي سلبته أمه، ثم هو ضحية للعقلية الإجرامية التي سلبته زوجته الحامل في 1969، حين قتلت وبوحشية زوجته الممثلة شارون تيت الحامل في شهرها الثامن بالإضافة إلى 3 من أصدقاء بولنسكي. وانعكس أثر ذلك جليا في اقتباسه العنيف والدموي لمسرحية شكسبير «ماكبث» عام 1971.

قدم بولنسكي للسينما الأميركية أحد أهم أفلام السبيعنات، «الحي الصيني»،عن الفساد والجشع في كاليفورنيا الثلاثينيات. وفي عام 1977 تم اتهامه باغتصاب فتاة في الثالثة عشر من عمرها، وهو الشيء الذي اضطره للهروب من الولايات المتحدة. وهنا نجد المفارقة حين عمل بولنسكي بعدها أكثر من مرة بأموال أميركية ومع ممثلين أميركيين وتلقى عدة جوائز وترشيحات أميركية، وهو الذي لم يستطع أن يضع قدميه على أرض أميركية. بعيدا عن أوروبا، من آسيا يأتي التايواني أنغ لي في بداية التسعينات بثلاثة أفلام تايوانية شكلت الثلاثية التي أسماها «الأب يعرف ما هو الأفضل». والأخيران منها جلبا انتباها نقديا وتجاريا عالميين، بعدها يستعرض لي عدة فترات تاريخية مختلفة: انجلترا في القرن الثأمن عشر في اقتباسه لرواية جين أوستن «الإدراك والإحساس» ثم ضواحي نيو انغلاند بأميركا في السبعينات في «العاصفة الثلجية»، ثم دراما الحرب الأهلية الأميركية «الركوب مع الشيطان». هذه الألفة مع الثقافة الغربية ليست غريبة على لي الذي درس منذ 1975 في عدة جامعات أميركية، وتظهر جلية أكثر عندما حاول في فيلمه الأخير «هلك» تقديم شخصية القصص المصورة الشهيرة ليس في صورة البطل الخارق فقط، بل كشخص يتألم ويحزن كما يفعل غيره من البشر. لي يحاول«أنسنة» هذا الرمز الأميركي أمام الجمهور، وهو وإن لم يوفق كثيرا في ذلك، إلا أنه يثير الإعجاب بلا شك لمجرد المحاولة.

المتتبع للهجرة السينمائية إلى الولايات المتحدة سيلحظ فورا بأن بروز القوى اليمينية في أوروبا في الثلاثينات، ثم الحرب العالمية الثانية، كان سببا لازدهار وتنوع فريد في المواهب والرؤية، حظيت به السينما الأميركية طوال العقود اللاحقة. والحق أن صناعة السينما الأميركية، كما هو حال الثقاقة الأميركية التي ترحب دائما بالجديد، لم تتردد في استقبال هذه المواهب والتأثر بها. وإن كانت أوروبا تبدو مستأثرة بحصة الأسد، فإن السنوات الأخيرة شهدت دخول أسماء آسيوية (أنج لي، وجون وو) أو لاتينية (ريدريغوز، كوارن وإيناريتو من المكسيك، و بابينكو من البرازيل) في تأكيد متجدد على أن هوليوود ليست أميركية خالصة، صناعة واستهلاكا.