محطات من تاريخ مفهوم المخرج السينمائي .. من الولادة إلى تهميش الاستوديوهات إلى نظرية المؤلف إلى الدوغما

حسام الحلوة

TT

المخرج السينمائي هو المسؤول الأول عن مراحل تنفيذ الفيلم منذ كونه فكرة أو سيناريو أولياً وحتى عرضه على الشاشة. المخرج السينمائي هو الشخص المسؤول عن اتخاذ القرارات الخلاقة أثناء صنع الفيلم، وهو الشخص الذي يجيب على أسئلة الممثلين ومدير التصوير وفني الصوت ومصمم الأزياء.. وبقية طاقم العمل السينمائي. هذه كلها تعريفات مختصرة وعامة جداً للمخرج السينمائي. ولكن، خلال تاريخ السينما مرت مراحل عديدة يكون خلالها مفهوم المخرج (في وقت ما ومكان ما) أكثر دقة وأكثر تحديداً وصراحة، وذلك يكون إما من خلال بدء مرحلة جديدة في تاريخ السينما أو من خلال ظهور نظريات معينة حول كيفية عمل المخرج أو كنتيجة لظروف الإنتاج السينمائي وسياسته، أو غير ذلك. في هذا المقال سأستعرض بعض هذه المراحل أو المحطات، مع العلم بأن المجموعة التي يضمها المقال لا يمكن تصنيفها ضمن فئة واحدة بالنسبة لطبيعتها كحدث، فهي لا يجمع بينها إلا أنها صبغت الإخراج بلون ما في فترة ما، كما أن تسلـسلها التاريخي ليس متتـاليا بـشكل محكم، فهناك فاصل زماني ومكاني بين كل محطة وأخرى:

أوائل الأعمال السينمائية على الإطلاق كانت مجرد تسجيل للحظات حقيقية، مثل خروج العمال من مصنع لوميير، أو وصول القطار إلى المحطة (وهما فيلمان من صنع الأخوين لوميير عام 1895). عندما نتأمل هذه الحقيقة إلى جانب الوضع الحالي للسينما ندرك أن السينما قد انتقلت، في مرحلة ما، من كونها أداة تسجيل فقط إلى كونها أداة خلق أيضاً. هذا الانتقال في بدايته لم يكن إلا طريقة جديدة لمشاهدة المسرحيات. فلولا بعض الخدع السينمائية البدائية التي كانت تستخدم في بعض الأحيان، لأمكننا أن نقول إنه لم يكن هناك فرق بين سينما تلك الفترة والمسرح إلا كون الأخير عرضا حيا والسينما عرضا مسجلا وبدون صوت. فالسينما في بداية استخدامها كأداة لرواية القصص قلدت كل ما يمكنها تقليده من مبادئ ومفاهيم المسرح، فالكاميرا كانت ثابتة دائما والممثلون يدخلون ويخرجون من الإطار كما يدخلون ويخرجون من على خشبة المسرح. حتى المبالغة في الأداء والماكياج التي كان الغرض منها إبراز التعابير لمن هم في الصفوف الخلفية من الحضور المسرحي كانت موجودة في السينما مع أنه كان يمكن الاستغناء عنها في ظل إمكانية التصوير القريب. واستغرق الأمر بعض الوقت حتى ظهر أناس يدركون أن إمكانيات السينما تختلف عن إمكانيات المسرح، فراحوا يجربون ويطورون ويبتكرون. إدوين بورتر (1869 ـ 1948) ودي غريفيث (1875 ـ 1948) وسيرجي آيزنشتاين (1898 ـ 1948) وأمثالهم من المخرجين حركوا الكاميرا جانبياً ورأسياً ووضعوها على عربات وسكك، ونوعوا في حجم اللقطة وزاويتها، فأسسوا بذلك لغة سينمائية مستقلة، وأعلنوا السينما فناً له أدواته ومكوناته الخاصة جداً. فنضج بعد ذلك مفهوم المخرج السينمائي، وأصبح يشير إلى الفنان الذي يوظف الأدوات السينمائية المختلفة لنقل القصة للمشاهد وفق رؤيته الخاصة، بعد أن كان مجرد «رجل مرور»، على حد تعبير وليم ك. إيفرسون في كتاب «السينما الأميركية»، يوجه الممثلين ويملي عليهم حركتهم بينما الكاميرا الثابتة تصور كل شيء.

* التهميش في نظام الأستوديو

* في السنوات ما بين 1930 و1950 كان الإنتاج السينمائي الأميركي خاضعا لما يسمى «نظام الستوديو». ست شركات إنتاج ضخمة سيطرت على المراحل الثلاث التي تشكل دورة الفيلم منذ تصويره وحتى عودة بكراته إلى أرفف الشركة. كل شركة كانت تنتج وتوزع وتعرض أفلامها بنفسها. أي أن حتى دور العرض كانت ملكاً لشركات الإنتاج. وكل شركة كان لها موقع ضخم في هوليوود او لوس أنجليس مليء بالستوديوهات ومنصات الصوت والمساحات الخالية، بحيث يتسنى تصوير أي فيلم مهما كانت أجواؤه أو نوعيته داخل موقع الشركة. وكانت هذه الشركات تحتكر الممثلين والمخرجين أيضاً، وذلك من خلال توقيع عقود تنص على التزام الممثل والمخرج على تنفيذ عدد معين من الأفلام في فترة معينة، مما يعني أن الفنان قد يضطر إلى العمل في أفلام غير مقتنع بها من اجل استيفاء شروط العقد. ولم يكن تجنب توقيع العقود حلاً لأن الشركات قصرت تعاملها على ممثلي ومخرجي العقود فقط، فالممثل والمخرج اللذان لا يوقعان عقدا، قد لا يجدان عملاً.

وخلال نظام الستوديو كانت السلطة، أثناء تصوير الفيلم، أولاً وأخيراً بيد المنتج وكان المخرج مجرد اختصاصي يؤدي وظيفته مثل أي فني في موقع التصوير. لذلك كان من الطبيعي آنذاك أن يستبدل المنتج المخرج بمخرج آخر في منتصف عملية التصوير، وقد حدث ذلك في أفلام شهيرة مثل «ذهب مع الريح» و«ساحر أوز» اللذين صورا في نفس الوقت تقريبا وتعاقب على الأول خمسة مخرجين على الأقل وعلى الثاني أربعة مخرجين، من ضمنهم جورج كيوكر الذي تولى إخراج «ساحر أوز» لأيام قليلة قبل أن يحل محله فيكتور فليمنغ، وينتقل هو ليبدأ بتصوير «ذهب مع الريح». فليمنغ ترك فيما بعد «ساحر أوز» قبل أن يكمله وذلك لكي يحل محل كيوكر كمخرج لـ «ذهب مع الريح» بعد أن وقع خلاف بين كيوكر وبطل الفيلم كلارك غيبل الذي أخبر المنتج أنه لن يعمل إلا في حالة استبدال المخرج بصاحبه فليمنغ، وبعد ذلك لم يعد كيوكر إلى «ساحر أوز» بل أنهى الفيلم مخرج آخر هو كينغ فيدور.

وكون المخرج يخرج فيلماً ليس لأن الفيلم يعني له شيئا بل لأنه ملزم بذلك وفقاً لعقد ما، وكون المخرج يصور الفيلم وهو يعلم أنه ربما لن ينهي تصويره بنفسه، وكون المخرج يتسلم تصوير الفيلم من منتصفه، وكون المخرج يعمل تحت إدارة منتج لا يتردد في تغيير أي شيء لا يعجبه في اللقطة أو في الفيلم، وكون الممثل يملك سلطة أكبر من سلطة المخرج، بل ويستطيع أن يمارس ضغوط لاستبداله.. فهذه أشد حالات التهميش والإقصاء التي مر بها المخرج في تاريخ السينما كله، وكان ذلك في هوليوود في عقدي الثلاثينات والأربعينات فقط. حيث بدأت محاربة هذا النظام برفع قضية احتكار عام 1948 واستمرت المحاربة حتى انهار نظام الستوديو على مشارف الخمسينات.

* نظرية المؤلف الفرنسية

* نظرية المؤلف تحاول أن تجيب على السؤال «إذا كان الفيلم السينمائي فناً، فمن هو الفنان الخلاق وسط كل هذا الجمع من العاملين على الفيلم؟». في عام 1954 كتب المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو، وكان حينها ناقداً في دورية «كراسات السينما»، مقالاً قال فيه إن الأفلام التي تستحق الاهتمام والتأمل هي تلك التي تؤدي دورها كوسيلة تعبير شخصية، وكنتيجة لذلك نجدها تحمل مع بقية الأفلام التي أخرجها نفس المخرج بصمة مميزة. وعلى هذا فإن «أسوأ أفلام جان رينوا أجدر بالاهتمام من أفضل أفلام جان ديلانوي». من خلال هذا المقال، طرح تروفو مبدأ جديدا في تقييم وتذوق الفيلم السينمائي، وهو يتعلق بالنظر إلى الفيلم كجزء من مجموعة أعمال المخرج، وليس كعمل مستقل، ولا كجزء من السياق التاريخي للسينما. أي أن الوحدة المعتمدة في تذوق الفيلم هي وحدة الفنان أي مجموعة أعماله الكاملة. هذا المبدأ أطلق عليه الناقد الأميركي أندرو ساريس، عندما قدمه للقارئ الأميركي، اسم «نظرية المؤلف»، حيث يقصد بالمؤلف المخرج السينمائي الذي يسيطر بإحكام على كل عناصر الفيلم ومراحل صنعه ويبث من خلال هذه السيطرة نكهته الشخصية. وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن ينسب فيها العمل الفني السينمائي إلى فنان وحيد يمثل القوة الخلاقة للعمل ويقال إنه هو المؤلف الوحيد للفيلم مثلما هناك مؤلف وحيد للكتاب ورسام وحيد للوحة وكاتب وحيد للقصيدة. والتفريق الذي أورده تروفو بين جان رينوا وجان ديلانوي يعني أنه ليس كل المخرجين قادرين على أن يكونوا مؤلفين. فهي صفة تعتمد على قدرات المخرج وعلى مفهومه للسينما.

ونظرية المؤلف ليست فقط نظرية نقدية تحول التركيز نحو المخرج بوصفة القوة الخلاقة في العمل السينمائي، وتتخذ مجموعة أعماله كوحدة لدراسة الفيلم، بل هي أيضاً معيار جديد فرض على العاملين في المجال السينمائي يحدد طبيعة العلاقة بين المخرج وبقية أفراد طاقم العمل، كما أنها عززت مفهوم السينما كفن مثل باقي الفنون الجميلة. ومن أمثلة المخرجين المؤلفين المعاصرين: وودي ألن، روبرت ألتمان، ديفد لينش، سبايك لي، وكونتن تارانتينو.

* دوغما 95: تهميش من نوع آخر

* في عام 1995 قام مخرجان دنماركيان بتأسيس حركة سينمائية جديدة. هذه الحركة تهدف إلى إجبار المخرج على التعامل مع عناصر سينمائية حقيقية، والبعد كل البعد عن الخداع والتصنع والتجميل في السينما مع أن هذه الأمور من قدرات السينما التي يقدرها الكثير. فمن هو ستيفن سبيلبرغ، مثلا، من دون خداع؟ ولكن من وجهة نظر لارس تراير وتوماس فنتربيرغ فإن السينما «نالت كفايتها من التجميل الصناعي مع بداية الستينات» وبعد ذلك تحولت السينما إلى مجرد خداع. الموجة الفرنسية الجديدة حاولت محاربة هذا التحول من خلال الدعوة إلى سينما شخصية فردية، ولكن هذا لم يجد وفقاً لرأي مؤسسي حركة «دوغما 95» بل أن الدوغما كما أنها تحارب التجميل والتصنع، تحارب الفردية في السينما أيضا. وذلك من خلال فرض مجموعة قوانين صارمة على المخرج تحكم نوعية القصة وشكل السيناريو وطريقة التصوير.

عشرة قوانين يجب أن يتبعها المخرج في تصوير فيلمه بدون أي استثناء لكي يحصل على شهادة «دوغما 95» وتسمى هذه القوانين «قسم العفة». هذه القوانين تضمن نقاء الفيلم من أي حس صناعي (يمنع استخدام الإضاءة الصناعية والموسيقى التصويرية ويمنع التصوير في ستوديو ويمنع إضافة ديكورات من أجل التصوير، الديكورات يجب أن تكون جزءا من المكان حقيقةً. الكاميرا يجب أن تكون جوالة ويمنع الاستعانة بأي نوع من القواعد والروافع لها) كما أن هناك قوانين تتعلق بالقصة والسيناريو (يمنع أن ينتمي الفيلم بالكامل لنوعية معروفة من الأفلام مثل الكوميديا أو الجريمة، ويمنع القفز المكاني أو الزماني، بمعنى أن القصة يجب أن تقع الآن وهنا، وليس هناك استخدام للفلاش باك) وقوانين الدوغما تتحدى اللغة السينمائية المتعارف عليها، فهي تسلب المخرج الكثير من الأدوات والإمكانيات التي أصبحت جزءا أساسيا من سينما اليوم، في سبيل أن يكون كل شيء قي الفيلم حقيقيا. والقانون الأخير يؤكد على محاربة الدوغما للسينما الشخصية: المخرج يجب أن لا يضع اسمه على الفيلم! إذن، في «قسم العفة» تهميش للمخرج وذاتيته حيث أن كل أفلام الدوغما لها نفس المظهر ونفس المواصفات، كما ليس للمخرج حرية اختيار القصة التي يريد أو أسلوب العرض الذي يريد.. ولكن هذا التهميش، كما يزعم بعض مؤسسي الحركة، من صالح الفن السينمائي، حيث أن الطريقة الوحيدة للعودة إلى السينما النقية هي الالتزام المطلق بمجموعة قوانين وعدم الحيد عنها مطلقا.