عباس كياروستامي يبحث عن الحلم الإيراني بعين السينما الواقعية

المخرج الإيراني يميل إلى انتزاع الفكرة البسيطة بأسلوب السرد الهادئ والغريب

TT

في عام 1997 كان المخرج الايراني عباس كياروستامي قد حمل فيلمه «طعم الكرز» متجها الى مهرجان «كان» في اللحظات الاخيرة، بعد ان كان قد منع من المشاركة في المهرجان لولا تدخل وزير الخارجية الذي سافر يومها مع المخرج الى فرنسا. وحينها حققت السينما الايرانية أحد أهم انجازاتها وجوائزها يوم أن حصل كياروستامي على السعفة الذهبية مشاركة مع المخرج الياباني شوهي ايمامورا عن فيلمه «ثعبان الماء». وظل بعدها كياروستامي وفيا لمهرجانات السينما العالمية بمشاركاته التي كانت دائما تثير الجدل وتحظى باهتمام النقاد وأحاديثهم.

والحقيقة ان كياروستامي يعد الآن أهم مخرجي السينما الايرانية ما بعد الثورة والأشهر على المستوى العالمي، وربما أفضلهم على الاطلاق، حيث استطاع منذ فترة أن يلفت انتباه المخرجين السينمائيين والنقاد ومتابعي الحركة السينمائية ويثير اعجابهم بعدد من أفلامه منذ ان قدم تحفته الغريبة «كلوز اب» عن قصة رجل ايراني محب للسينما يستغل شبهه بالمخرج الايراني محسن مخلمباف ليخدع احدى الاسر الايرانية ويحظى باحتفائها. وعبر أفلامه الأخرى من مثل «أين بيت الصديق» عام 1987 عن قصة طفل يظل يومه يبحث عن منزل صديقه وزميله في المدرسة ليعيد اليه دفتره الدراسي الذي نسيه معه. وفيلم «وتستمر الحياة: الحياة ولا شيء آخر» 1991 راصدا آثار الكارثة التي دمرت قرية بوشتة الايرانية، حيث يبحث المخرج وسط فوضى الزلزال عن الطفل أحمد بطل فيلم «اين بيت الصديق» ثم فيلم «سوف تحملنا الرياح» 1999 عن قصة لرجل المدينة وزميليه الذين يذهبون لقرية سياه داره النائية بين الجبال ويظلون منتظرين موت عجوز مقعدة لسبب ما.

لقد استطاع كياروستامي أن يفرض نفسه على خريطة الاخراج السينمائي وأن يدخل عند الكثير في مستوى المقارنة مع مخرجين عالميين كبار امثال الايطالي فيتوريو دي سيكا وايرك رومر المخرج الفرنسي وساتياجيت راي المخرج الهندي الشهير جاعلا من افلامه محل انتظار عند الكثير لما يتفرد به من اسلوب مميز يجمع ما بين الواقعية الدرامية وحس الافلام الوثائقية وابتكار في السرد السينمائي المفعم بالتأمل والشاعرية الانسانية بحسه المرهف، وهو الذي كان فنانا تشكيليا قبل ان يتجه للاخراج وله ديوان شعر مطبوع وكان قد استوحى فكرة فيلمه «اين بيت الصديق» من قصيدة للشاعر الايراني زوهراب سيبهري الذي يقال انه قضى في ظروف غامضة. وهو يملك القدرة الدائمة على استنطاق ابسط القصص واكثرها اعتيادية وتحميلها اعمق المعاني بصورة فريدة، واعتاد دائما على ان يوظف تلك الأحداث الحقيقية البسيطة بشخوصها الحقيقيين ليخلق قصة يمتزج فيه الخيال بالحقيقة، لانه كما يقول لا يمكن ان تصل الى الحقيقة الا من خلال الكذب، وهو يعني بهذا الكذب ذلك الخيال الواسع الذي يستنفد قوته ويذهب بعيدا من اجل ان يكتشف الحقيقة ويسلط الضوء عليها.

وفي افلام كياروستامي لن تجده يميل كثيرا الى تقديم تلك الافلام التي تعتمد السرد الدرامي التقليدي بحبكته وعقدته وبنائه المعتاد فهو يميل الى انتزاع الفكرة البسيطة والتحديث الدائم في اسلوب السرد بشكل هادئ وغريب أحيانا، كما في فيلمه المثير للجدل الذي شارك به في مهرجان كان 2002 «تن: عشرة» حين قدم فيلما من موقع واحد لا يبارح سيارة في شوارع طهران بزاويتي تصوير فقط في عشرة مشاهد يعتبره الكثير مدرسة في الأداء وصناعة الحوار، حيث الام قائدة السيارة وركابها المتتابعون ما بين ابنها واختها وفتاة كسيرة وعجوز متدينة وبائعة هوى.

ولاحقا تبين ان كياروستامي كان قد صور لهذا الفيلم اكثر من 23 ساعة اخرج منها ساعة ونصف الساعة فقط، وكان يتعامل مع الممثلين بطريقة خاصة حيث يتكلم معهم مطولا عن شخصياتهم وطبيعة الحوار ومن ثم يرسلهم في السيارة لوحدهم لتصوير المشهد.

وحينما قدم فيلمه الوثائقي «اي بي سي افريقيا» عام 2001 كان قد ترك المشهد بشاشة سوداء لمدة سبع دقائق في بداية الفيلم لا يتاح للمشاهد سوى سماع الحوارات التي يحاول من خلالها تخمين ما يجري.

وعندما تم عرض فيلمي «اين بيت الصديق» و«تستمر الحياة» في طوكيو علق امبراطور السينما اليابانية والمخرج الكبير اكيرا كوروساوا قائلا «اعتقد ان افلام المخرج الايراني عباس كياروستامي رائعة واستثنائية والكلمات وحدها تعجز عن وصف مشاعري، حين توفي ساتياجيت راي اصابني اكتئاب شديد، لكن بعد مشاهدة افلام كياروستامي شكرت الله ان وهبنا الشخص المناسب ليحل مكانه».

وكان كياروستامي قد منح جائزة اليونيسكو «ميدالية فيلليني الذهبية» لانجازاته في السينما والحرية والسلام والتسامح.

وفي المجلة البريطانية «سايت آند ساوند» عدد ديسمبر (كانون الاول) عام 2002 طلب من بعض النقاد البريطانيين التصويت لافضل الافلام وافضل المخرجين خلال الـ25 سنة الماضية، وكان كياروستامي قد حل رابعا في ترتيب المخرجين متقدما على عمالقة الاخراج السينمائي امثال انغمار برغمان وفرانسيس كوبولا.

ولكن من جانب آخر فان الناقد الأميركي الشهير روجر ايبرت لا يبدو معجبا كثيرا بعباس كياروستامي معتقدا انه لا يمكن لشخص عاد ايرانيا كان او أميركيا ان يتعلق بأفلامه لانها وجدت كما يقول لاجل المهرجانات السينمائية والنقاد السينمائيين وللمدارس السينمائية فقط. وروجر في نفس الوقت يعيب على النقاد الغربيين اعجابهم المبالغ بعباس في مقابل اهمال مخرجين اخرين، ويقول انه التقى رئيس مهرجان بانكوك السينمائي براين بينيت واخبره الأخير انه ذهب لمهرجان طهران الدولي السينمائي ومعه الكثير من النقاد الغربيين ورؤساء المهرجانات، وعندما يتضح ان الفيلم الذي يشاهدونه هو فيلم عن قصة او عن شخصيات يتسابقون للخروج من الصالة لانهم قرروا في اذهانهم ان السينما الايرانية هي تدريب في «السينما المنمالية» والاسلوب ولم يريدوا مشاهدة افلام ذات بناء روائي. والسينما «المنمالية» هي الأفلام التي تكون بالحد الأدنى من بعض العناصر الفنية، كما في فيلم «عشرة» الذي اكتفى فيه كياروستامي بزاويتي تصوير فقط وموقع واحد داخل سيارة.

وحين نشاهد افلام كياروستامي المخرج الذي يحب الاستماع الى عبد الحليم حافظ ولا يشاهد افلاما كثيرة ويجزم انه لم يشاهد فيلما من اجل مخرجه لانه يعشق السينما كمتعة، رغم انه لا ينفي تأثره فكريا بأفلام لسينمائيين ايرانيين، مثل شهيد سالس وكيميافي وداريوش مهرجي كما ينقل عنه فجر يعقوب انه يقدم سينما تمجد الحياة وتتلمس مباهجها، مع انه لا يرى الحياة جيدة بحد ذاتها، الا اذا رأيناها بطريقة وردية فلنا أن نمجدها. وفي فيلم «طعم الكرز» وهو عن رجل يريد الانتحار ويبحث عمن يدفنه يقول كياروستامي: كما في «لقاء فجر يعقوب» عرضت الوجه الآخر من العملة فاذا اردت ان تغادر فأمامك طريقة واحدة. بمعنى انه اذا اردت ان تغادر فيجب ان يكون عندك سبب لتمجيد الحياة واذا لم ترد ان تغادر فأمامك طريقة واحدة وهي ان تفتح نافذة حتى تستمر الحياة. وكياروستامي يعتقد ان الناس الذين نجوا من الزلزال هم الذين صنعوا فيلم «وتستمر الحياة» لانهم يريدون تجاوز هذه الكارثة والاستمرار بالحياة ولهذا ظهر ذلك الشاب الذي يحاول تركيب هوائي التلفزيون ليشاهد احدى مباريات كأس العالم في فوضى الزلزال المدمر. ويضيف كياروستامي ان فيلمه الاخر «أي بي سي افريقيا» يقترب في بنيته من فيلم «وتستمر الحياة»، فهو يعرض اولئك الناس الذين يحبون الحياة ويمجدونها وسط كارثة الايدز التي تحصد الارواح بينهم.

ومن جانب آخر فان المتابع لأفلام كياروستامي والنابعة من افكاره سيلفت انتباهه انها افلام تقوم على «البحث والاكتشاف» فالطفل احمد يبحث عن زميله في «اين بيت الصديق» والمخرج يبحث عن احمد بعد الزلزال في قرية بوشتة في فيلم «وتستمر الحياة» وهناك الرجل الذي يبحث عن مكان مرتفع ليستطيع اجراء مكالماته الهاتفية في فيلم «سوف تحملنا الرياح» وبادي الذي يريد الانتحار في «طعم الكرز» يبحث عمن يدفنه وفي فيلم «البالون الابيض» الذي كتبه كياروستامي للمخرج جعفر بناهي كانت الطفلة تبحث عمن يخرج نقودها التي سقطت في قبو دكان وحتى حسين سابزيان كان يبحث عن حلم شخصي حينما تقمص شخصية المخرج مخلمباف في «كلوز اب».

وهناك ثلاثة افلام ايضا «طعم الكرز» و«تستمر الحياة» و«عشرة» اعتمد فيها كياروستامي السيارة لينظر من خلالها عبر العالم، وربما هذا الامر يعود الى فكرته الاساسية التي يعبر عنها قائلا «عادة ارى العالم من نافذة سيارتي. الافكار تتدفق في رأسي بصورة أفضل مما لو كنت جالسا خلف مكتب.. ربما لان البحث حتى بلا غاية او هدف ركن اساسي في فلسفات الشرق. البحث والرغبة في الاكتشاف هو الذي يحركنا. الحياة بالنسبة لي حركة. حتى في سكوتها او ثباتها. حركة مادية أو ذهنية. لا يهم، المهم ان هذه الفكرة متضمنة في كل أفلامي».

وحول الموقف السياسي والديني الايراني من هذه السينما التي اعقبت الثورة الاسلامية وتقودها مجموعة من المخرجين المشاهير امثال مجيد مجيدي وعائلة مخلمباف وجعفر بناهي وباهمان قوبادي وصابر رسولي وغيرهم يعتقد عباس كياروستامي ان اصحاب النظام السياسي في ايران بدأوا يستسيغون أفلامهم ويكتشفون سحر السينم حتى المتشددين دينيا بعد ان كانت محرمة بالنسبة اليهم لانهم يحبون ان يشاهدوا شخصياتهم ووجوههم ونمط معيشتهم في السينما. بينما يعتقد البعض ان السياسة الايرانية ستظل مدينة لعباس كياروستامي بالكثير لانه أضفى بأفلامه صورة انسانية ووجها فنيا على الايرانيين بعد الصورة السلبية لدى الغرب بسبب نظرتهم تجاه الثورة الاسلامية.

وما يمكن قوله الان هو ان كياروستامي الذي أتم في يناير (كانون الثاني) الماضي عامه الرابع والستين يعتبر فخر السينما الاسيوية عامة وليس الايرانية فحسب وأحد عرابيها الذين لا غنى لكل مهتم ومتابع للسينما من مشاهدة أفلامه.