النقد بين عتب السينما وتجاهل الجمهور

حازم الجريان

TT

في كتاب «السينما 1952» لروجر مانفيل يذكر المؤلف نصا للناقد الانجليزي جاك بدينغتون يقول فيه: «في رأيي انه من النتائج الغريبة للنقد السينمائي أن الذين يخاطبهم أساسا، أعني الجمهور، لا يبدون أي اهتمام به»، وفي كتابه «تعريف النقد السينمائي» يعلق الناقد المصري علي شلش على نظرة بدينغتون هذه فيقول: «وإذا أخذنا في الاعتبار أن إجابة بدينغتون هذه قد صدرت عام 1952، فإننا نراها في النهاية تعبر عن وجهة نظر شخصية، وتحمل مسحة واضحة من التشاؤم. فلا شك أن الجمهور العام للسينما يضم عددا لا يستهان به ممن يميلون الى القراءة عن الأفلام التي شاهدوها أو التي قد يشاهدونها. ولا شك أيضا أن هذا العدد في تزايد مستمر، مع انتشار الثقافة والتعليم، فضلا عن تزايد الوعي السينمائي من خلال جمعيات الفيلم وأنديته، بل ومن خلال الاهتمام المتزايد الذي تبديه وسائل الاتصال الجماهيري الأخرى كالاذاعة والتلفزيون».

وإذا أخذنا في الاعتبار أن علي شلش قد كتب هذا الكلام قبل 18 سنة فإننا رغم منطقية رأيه مبدئيا نرى أنه كان متفائلا أكثر مما ينبغي، وأن رأي بدينغتون ليس بأكمله وجهة نظر شخصية متشائمة لهذه الدرجة، ففي حين كان يجدر بوسائل «الاتصال الجماهيري كالاذاعة والتلفزيون» أن تزيد من الوعي السينمائي فإنها في الحقيقة لم تؤد دورا توعويا بقدر ما كان دورها دعائيا لا يقوم غالبا بنقد الأعمال السينمائية وإنما بالدعاية لها من دون تمييز، ونظرة سريعة على البرامج السينمائية في الفضائيات العربية وحتى الأجنبية تؤكد غياب العنصر النقدي مقابل كثرة العروض الدعائية والمقابلات الترويجية التي يقوم بها النجوم السينمائيون لصالح أفلامهم، بينما نجد أن «جمعيات الفيلم وأنديته» كانت على أهميتها ذات حضور جماهيري محدود حتى في دول متقدمة سينمائيا مثل الولايات المتحدة الأميركية أو فرنسا.

وفي استطلاع لمجلة «فارايتي» اليومية الشهيرة في لوس أنجليس عام 2000 ذكر 28 في المائة أنهم يشعرون بأن الآراء النقدية مهمة، بينما يعتمد 70 في المائة منهم على آراء أصدقائهم ومعارفهم، في حين ذكرت مجلة «اكران توتل» في نفس العام أن 33 في المائة فقط من الفرنسيين يختارون أفلامهم بناء على نصائح نقدية، وهنا يحق لنا أن نتساءل إلى أي رقم ستنخفض هذه النسبة في البلاد العربية.

حسنا، ماذا عن الطرف الآخر في المعادلة؟ ماذا عن العاملين في صناعة السينما؟ الحال أنه وبرغم العداوة الظاهرة بين صناع السينما والنقاد السينمائيين، وهنا نشير إلى نفس الاستطلاع الذي أجرته مجلة «فارايتي» بين 48 من صانعي الأفلام حيث نجدهم وجهوا انتقادات لاذعة لمعظم النقاد الأميركيين كان أهمها النقد الصارخ وادعاء المعرفة المتخصصة وافتقادهم لادراك السياق التاريخي، نقول برغم هذه العداوة الظاهرة فإن هذا لا يلغي حقيقة أن النقد السينمائي موجه بالدرجة الأولى إلى صناع السينما، وهذا ما يذهب إليه بدينغتون نفسه رغم نظرته المتشائمة نحو النقد حين يقول: «إن الفيلم ينجح بشكل عام عن طريق الدعاية الشفوية، وليس عن طريق المدح أو القدح اللذين تصبهما عليه الصحافة. أما الذين يأخذون النقد مأخذ الجد فهم، كقاعدة، المنتجون والمخرجون والممثلون والفنيون». وحتى حين نستعرض عدة أفلام يظهر فيها نقاد سينمائيون سنجدهم إما شخصية لطيفة وطيبة وربما ساذجة قليلا أو متعلقة بالسينما بشكل غير صحي، كما لعبها وودي آلن عام 1972 في فيلم هيربرت روس «اعزفها مجددا، سام»، وهو وإن كان يحب الكلام المنمق المتعالي في فيلم «ثمانية ونصف» للإيطالي الكبير فيدريكو فيلليني الا أنه كان صديقا للمخرج الذي يأخذ برأيه ويستشيره، وهناك الناقد المسرحي في فيلم «كل شيء عن حواء» الذي قدمه الممثل جورج ساندرز عام 1950 كشخص ذكي ولاذع في كتاباته أحيانا، ولكنه بالتأكيد ليس حجر عثرة في وجه العمل الفني بل صديق للممثلة في الفيلم، وحتى عندما شاهدناه في أسوأ حالاته عام 1999 مع الممثل ويليام ميسي في الفيلم التلفزيوني «حالة جريمة تافهة»، فإنه رغم كل عيوبه لم يكن غبيا أو جاهلا كما قد نتوقع أن يتخيله بعض السينمائيين.

الحقيقة أن العلاقة بين الناقد والفنان ليست علاقة رومانسية جميلة ولكنها بالتأكيد لا تصل للدرجة التي تجعل الرسام والسينمائي الأميركي مان ري يطالب ذات يوم علنا باغتيال جميع النقاد، ذلك لأن الانجليزي كينيث تينان ربما كان محقا حين وصف الناقد مرة بأنه «شخص يعرف الطريق ولكنه لا يعرف كيف يقود السيارة». وإن كان وصف تينان هذا يبدو ذكيا ومتواضعا حين يضع الناقد في مكانه الحقيقي من دون إهانة، فإن التاريخ السينمائي حقيقة مليء بنقاد عرفوا جيدا كيف يقودون السيارة أمثال الروسي سيرجي أيزنشتاين الذي لا تقل كتاباته النقدية أهمية عن اسهاماته السينمائية الرائدة، وكذلك ما أسهمت به المجلة الفرنسية الشهيرة «دفاتر السينما» ونقادها الشباب فرانسوا تروفو وجان لوك غودار وآخرون الذين أحدثوا بأفلامهم في نهاية الخمسينات نقلة سينمائية كبيرة ربما كانت الأكبر والأكثر أهمية في تاريخ السينما حتى الآن، وكذلك الكاتب والمخرج باول شريدر الذي كتب في صحيفة «ال اي ويكلي برس» بالإضافة إلى مجلة «السينما» ونشر كتابا عن درير وأوزو وبريسون قبل أن يتجه لكتابة عدة أعمال احتفلت بها السينما الأميركية كثيرا مثل «سائق التاكسي» و«الثور الهائج» وأخرج عدة أفلام أخرى حازت نصيبها من التقدير.