نقل المخرج قدرة اللغة الروائية على التنقل عبر الزمن بسلاسة إلى اللغة السينمائية

تارانتينو في الجزء الثاني من «اقتل بيل» يستوحي أجواء السينما الآسيوية

TT

في الجزء الثاني من فيلم كونتن تارانتينو المقسوم إلى جزءين «اقتل بيل»، تواصل العروس (أوما ثورمان) سلسلة انتقاماتها من مرتكبي مذبحة حفل زواجها. ولكن هذا الجزء يختلف عن الجزء الأول في ايقاعه وفي نوعية المشاهد التي تغلب عليه. الجزء الأول كان أقل تعقيداً من الثاني، ويحتوي على كمية أكبر من مشاهد الحركة والقتال. أما الجزء الثاني ففيه تطور القصة واكتمالها، كما يحمل كمية لا بأس بها من العاطفة والدراما. ومع أن كمية مشاهد القتال في الجزء الثاني أقل، إلا أن أثرها أكبر من تلك التي في الجزء الأول وأتصور أنها ستبقى عالقة في ذهن المشاهد لمدة أكبر. هناك علاقة تكاملية بين الجزءين، وهذا أمر طبيعي حيث أن الجزءين كتبا في الأساس كفيلم واحد، ولكن تم تقسيمه لطول مدته. وأعتقد أن الكثيرين يتفقون على أنه كان من الأفضل أن يبقى الفيلم فيلماً واحداً ولو طالت مدته. وإن كان يحسب لشركة الإنتاج تفضيلها لخيار قسمة الفيلم إلى قسمين على حذف مشاهد بغرض اختصار الوقت، وخصوصاً أن في الأمر مجازفة، فلو فشل الفيلم الأول لفشل الثاني تلقائياً، ولكن يبدو أنه كانت عند الشركة ثقة بتارانتينو واحترام لرؤيته في نفس الوقت. عرف كونتن تارانتينو بصنعه لأفلام يعيد من خلالها خلق أجواء سينمائية مختلفة، كلاسيكية في الغالب. وهو من خلال فيلمه الأخير ذي الجزءين «اقتل بيل» يقدم قصة جميلة جداً ومؤثرة في قالب يحاكي عدة مدارس وأصناف سينمائية منها أفلام الحركة الصينية، وأفلام الساموراي والرسوم المتحركة اليابانية، بالاضافة إلى أفلام الإيطالي سيرجيو ليوني الذي عرف بصناعة أفلام الغرب الأميركي في إيطاليا. هذا الفيلم يكشف عن إلمام كبير يتمتع به تارانتينو حول نواح عديدة من ثقافة الشرق الأقصى. ولكن تارانتينو، في نفس الوقت، متهم، من قبل الآسيويين خاصة، بأن تقديمه للأجواء الآسيوية لا يخلو من إخلال بالمضمون الفكري والروحاني لها. ومع ذلك، فإن افترضنا أن تارانتينو لا يحمل فهماً عميقاً للثقافة الآسيوية، فإنه بالتأكيد لا يسيء إليها، بل إنه من خلال هذا الفيلم يقدم تحية للفنون المقبلة من هناك ولأهلها. فالتفاصيل الدقيقة التي يمتلئ بها فيلمه تبين أنه متابع جاد وجيد ووفي لتلك الفنون. يبتعد تارانتينو في هذا الفيلم عن الحوارات التي اشتهر بها، وهي الحوارات التي لا ترتبط مباشرة بالقصة أو بالموقف، بل هي زائدة، مثل الحديث حول التدليك بين قاتلين في طريقهما لمهمة تصفية. وعلى الرغم من ذلك، فان حوار هذا الفيلم يحتفظ بقدر كبير من التميز والجمال. العبارات مكتوبة بطريقة لا تعبر عن المعنى وحسب، بل تعبر عنه بجمالية وشاعرية، قد يكون ذلك ليس واقعياً، ولكن لا أحد يتوقع واقعية من فيلم مثل «أقتل بيل». يقول (بيل) وهو على وشك قتل (العروس) في عبارة تجمع بين القبح والرومانسية «هل تجديني سادياً؟.. ربما حيال هؤلاء الحمقى الآخرين، ولكن ليس حيالك أنت. كلا يا صغيرتي، أنا الآن في أقصى حالات المازوشية». وفي حديث للعروس مع (بيل) تقول موضحة كيف أن حملها غير حياتها «قبل أن يتحول ذلك الشريط إلى اللون الأزرق، كنت مستعدة لأن أقفز من دراجة نارية إلى قطار متسارع، من أجلك. ولكن حالما تحول ذلك الشريط إلى اللون الأزرق لم أعد قادرة على ذلك، لأني الآن أم». من ناحية أخرى، يتميز النص بطريقة فريدة يسرد فيها تارانتينو أحداثه كما عودنا في أفلامه السابقة. يقول كونتن تارانتينو، معلقاً على أسلوبه في كتابة أحداث أفلامه بشكل غير مرتب زمنياً، أنه مذهول بقدرة اللغة الروائية في فن الرواية على التنقل عبر الزمن بسلاسة متناهية، وأنه يريد أن يصل إلى نفس الأثر مستخدما اللغة السينمائية. وإن كانت كل أفلام تارانتينو تحمل قفزات زمنية في الاتجاهين، وتحمل محاولات لمحاكاة الرواية أو التفوق عليها أحيانا في مرونة السرد والتداعي، إلا أن أسلوب تارانتينو السردي وصل في «أقتل بيل» لمرحلة نضج لم يصل إليها من قبل، عندما وضع بطلته (أوما ثورمان) في مأزق في بداية الفيلم ثم فتح خطاً سردياً آخر يحكي قصة التدريب الذي تلقته في الصين، ليبدأ بالتنقل بشكل تبادلي بين الخطين اللذين يحمل كل منهما غاية للبطلة، فغايتها في الأول هو التخلص من المأزق وغايتها في الثاني أن تنجح في التدريب، وفي نهاية متابعتنا للخطين تتمازج الغايتان لتصبحا غاية واحدة، حيث ما تعلمته في التدريب هو ما سيخلصها من المأزق، في واحد من أجمل وأعنف وأقوى المشاهد التي شاهدتها أخيرا. وهذا المشهد ليس هو الوحيد البارز في الفيلم، فتارانتينو أستاذ في صنع المشاهد المتميزة التي تبقى في ذاكرة من يشاهد أفلامه سواء أعجب بها أو لم يعجب. لابد أن دور (العروس) هو أقوى أدوار أوما ثورمان على الإطلاق. وهو دور مركب، فهناك القاتلة الصلبة، وهناك الفتاة العاشقة الظريفة، وهناك الأم العطوف. ثلاث شخصيات في واحدة تتقن ثورمان التنقل بينهن بشكل مبهر ومقنع. وهذا الفيلم يبدو أنه الأصعب تنفيذا بين أفلام تارانتينو، والأكثر تنوعاً في أجوائه، والأكثر حركةً وضجيجاً. تارانتينو من المخرجين المقلين، ولكن كل فيلم يخرجه يجعل معجبيه يتحرقون انتظاراً لفيلمه المقبل، وهو رغم أنه يبدو محدود المصادر، ويكرر نفسه في أفلامه، إلا أنه في نفس الوقت سيد الأفلام الأصلية والأفكار غير المسبوقة، مما يجعل توقع عمله المقبل مستحيلاً.